الأربعاء، 6 أبريل 2011

ملاحظات على نظرية الفوضى الخلاقة


يطرح المؤرخ الامريكي (إريك هوبسبوم) تساؤلا منطقيا فيقول: " هل تسعى الولايات المتحدة لقيادة العالم أم للسيطرة عليه " ؟
وفي نفس الاتجاه تحدث مستشار الامن السابق الجنرال ( زبجينيو بريجينسكي) محللا الاتجاهات الامريكية الحديثة في السيطرة على العالم، وقد كان اكثر واقعية من الكثير من الساسة الامريكيين والاوربيين حين قال: " يجب على الولايات المتحدة ان لا تخلط بين قوتها والقوة اللامحدودة " .

ان الفراغ السياسي الدولي الذي احدثته الولايات المتحدة بعد انهيارالاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية فرض نظرية القطب الواحد الذي سعى الى تحقيق ما بات يعرف (بالعالم الجديد)، وهو عالم تحلم الامبراطورية الامريكية الحديثة الى ان يكون علما يخفق وفق النبض الامريكي، وإن كانت هذه النظرة تحمل شيئا من التشاؤمية تجاه المستقبل إلا ان الولايات المتحدة فعلاً سعت الى ان تظهر للعالم بانها تملك القوة غير المحدودة، ولذا ادعت انه يجب على العالم الخضوع لمنهجها ورؤياها المستقبلية.

ومن هنا حشدت الولايات حشودها لضرب طاغية العراق، لتبعث رسالة مفادها انها قادرة على تكرار الفعل في كل مرة تجد فيها نفسها مضطرة لتكراره. وقد تم توجيه هذه الرسالة ايضا للمحافل الاوربية التي وقف البعض منها في الجانب الرافض للحرب الامريكية.

لقد اختارت الولايات المتحدة ان لاتبقى مجرد جزيرة كبيرة تمثل حلما للعالم الجديد، فدست بقوتها في الشؤون الدولية، مستغلة نقاط الضعف التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ساعدها على ذلك انها وطيلة اكثر من قرن تنشيء نظاما داخليا متفردا، كماانها عملت على تركيز القوة الداخلية، واستيعاب النظريات السياسية والعلمية، حتى صارت نزعة الهيمنة جزءا من مناهج التفكير في مدارسها السياسية والحزبية.

ولا أظنني أجانب الصواب حينما أقول أنه حتى الامبراطوريات القديمة (الرومانية والصينية والبريطانية) لم تعرف تركيزا للقوة كالذي عرفته الولايات المتحدة، فكانت الحرب الباردة، والتنافس على الهيمنة الكونية عبر برامج الفضاء، والاقتصاد ثم القوة العسكرية الهائلة. قد وضعت واشنطن في مركز القرار الدولي قبل ان تتفرد بالقرار في اوائل التسعينات من القرن الماضي.

لكن الباحث المتخصص سيجد ان قوة الولايات المتحدة ليست ذاتية بشكل مطلق بقدر ما هي نتاج لضعف الآخرين وتشتتهم. كما لم تكن 11 سبتمبر 2001 هي البداية في الظهور الكاسح للهيمنة الامريكية بقدر ما كانت احدى مفاتيح بوابات (نظرية العالم الجديد)، وتبريرا لفعل مستقبلي سيضع السياسة الدولية امام مواجهة ستكون بالتأكيد اكثر تأثيرا من ايقاعات الحربين العالميتين الاولى والثانية.

فالولايات المتحدة لم تحتج الى عقود زمنية لترتب اوراقها، ولا الى الكثير من المفاوضات لتبدأ المراحل المتقدمة من مشروعها العالمي الذي يسعى الى اخضاع الجميع وكان عليها ان تستغل تشتت وتباين القرار الاوربي ووقوف حكومة بلير الى جانبها اوربيا لضرب مراكز القوى الاخرى.

ولما كان النظام الدكتاتوري في العراق قد اصبح من اكثر الانظمة فسادا وتهديدا للامن الدولي والاقليمي، فقد استغلت قيادات البيت الابيض وخاصة مجموعة (المحافظين الجدد) هذه التطورات لتسارع في خلق حالة من الخوف تجاه كل ما هو ليس غربي، من جهة وتجاه التطرف الاسلامي الذي اتسم بالكثير من العنف والابتعاد عن روح الاسلام من جهة أخرى.

إن التداعيات الدولية وضعت اهم مراكز القوى الشرقية في مواجهة الهيمنة الامريكية، مثل إيران وكوريا الشمالية وبعض مراكز القوى في امريكا اللاتينية، والتي شعرت في نفس الوقت ان الهيمنة الامريكية لايمكن أن تستمر الى مالانهاية.

إن إشاعة هذا المصطلح (الفوضى الخلاقة) على نطاق واسع يؤكد أن المرحلة الثانية من الاستراتيجية العالمية تحولت إلى خطة يتم الشروع في تنفيذها بالفعل على أرض الواقع. وإذا كانت المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية جرت تحت شعار "الحرب على الإرهاب" ، فإن المرحلة التالية من هذه الاستراتيجية ستجري تحت شعار "الحرب على الاستبداد ونشر الديمقراطية" وتستهدف إسقاط " انظمة الاستبداد "، وإدخال إصلاحات سياسية بعيدة المدى في العالم العربي. الفرق بين المرحلتين أن الأولى تطلبت استخداماً مكثفاً للقوة العسكرية واحتلالاً فعلياً للدول المستهدفة، أما الثانية فستعتمد على الوسائل غير العسكرية في المقام الأول، ولكن من دون استبعاد كلي للقوة العسكرية.

واذا اخذنا بالقول الذي يرجع هذه النظرية الى (مايكل ليدن) الذي يرى ان التدمير البنّاء هو صفتنا المركزية‏..‏ وأن الوقت قد حان لكي نصدرالثورة الاجتماعية، وتعود الخلفية النظرية لهذا المفهوم إلى محاولة ترتيب أفكار ومعتقدات المحافظين الجدد وآبائهم الفكريين، وعلى رأسهم (ليو شتراوس)، المدافع عن الفلسفة الكلاسيكية ومنطلقاتها الأخلاقية، والداعي إلى الدفاع عن مصالحها بالقوة، مع أفكار أخرى لعل أهمها مقولة (فجوة الاستقرار) عند صمويل هنتنجتون صاحب نظرية (صدام الحضارات) في معالجته للتنمية السياسية. فهذه الفجوة، حسب هنتنجتون، تولد إحباطا ونقمة في أوساط المجتمع مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي.

فالإحباط الاجتماعي يولد المزيد من اللااستقرار إذ ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القدرة والقابلية على التكييف الإيجابي، لأن الإحباط ومشاعر الاحتقان التي تزيد هذه الفجوة يتمخض عنها مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متوقعة، تفرض على مؤسسات النظام التكيف من خلال توسيع المشاركة السياسية واستيعاب هذه المطالب، أما إذا كانت هذه المؤسسات محكومة بالنظرة الاحادية، فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لهذه المطالب إلا بالمزيد من الفوضى، التي ستعمل في نهاية الأمر على استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.

ويصل البروفسور بارنيت إلي مرحلة " الفوضي الخلاقة "‏,‏‏ حيث يتصور شكلا معينا لامكان حدوثها‏,‏ من نوع الانهيار الكبير أو التفكك الاقليمي‏.‏ وحسب خطة الاستراتيجية الجديدة يأتي التدخل المباشر من قوة خارجية في حالة حدوث الفوضى‏.‏

ان الاستجابة لتوسيع دائرة فهم ( الفوضي الخلاقة‏),‏ راجع إلي أنها لم تعد مجرد طرح نظري فقط‏, ولكنها استراتيجية يجري تنفيذها بالملموس.

ويبدو من قراءة صاحية للافكار اعلاه ان صناعة الفوضي نابعة على ما يبدو من ايمان عقائدي عميق لدى من يصنعون السياسة الخارجية الأمريكية والقائم على فكرة مضمونها ان التغيير في حد ذاته لا يكفي‏,‏ وأن الأوضاع الداخلية في المنطقة وثقافتها تحتاج تحولا شاملا ‏transforming‏ ‏.‏ ومن هنا كان ولع المنظرين الاستراتيجيين هؤلاء بمفاهيم من قبيل: التدمير الخلاق والفوضى الخلاقة‏,‏ التي تعقبها ازالة الأنقاض والاشلاء‏,‏ ثم تصميم جديد لبناء مختلف‏.‏

ان هذه الاستراتيجية تكشف، عن تدبير ملموس للتدخل المباشر في شئون المنطقة‏,‏ وهي بمثابة اعلان او اعادة تأكيد لاحد معالم الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق الاصلاح الداخلي والديمقراطي في منطقة الشرق الاوسط حيث ان الشأن الداخلي لم يعد شأنا داخليا,‏وفق تعريف جديد يجعل من التغيير في الداخل أمر يخدم الأمن القومي للولايات المتحدة, ‏ويزيل التهديدات له.

ورغم ذلك كله هناك هدفان يقعان في صلب الاستراتيجيا الاميركية، وهما ضمان الهيمنة على موارد الطاقة، وممارسة سيطرة متعاظمة على الكرة الارضية. وبغض النظر عن النتائج الفعلية فإن هذين الهدفين يظلان ماثلين على الدوام، وليس هناك ما يدعو – من وجهة نظر صقور المحافظين الجدد وغيرهم كذلك – الى التخلي عنهما أو التقليل من اهميتهما.

واخيرا فلا يمكن فهم الجوهر والمغازي الفعلية لنظرية (الفوضى الخلاقة) دون ربطها بالتحولات الجذرية التي شهدتها الاستراتيجية الامريكية بعد احداث 11 سبتمبر 2001، وهذا يستدعي عرضا مكثفا لأبرز معالم هذه الاستراتيجية فهي:

1- الانفراد بالتفوق العسكري المطلق بما يحقق السيطرة الاستراتيجية الكاملة. لاشك أن قراءة متفحصة لجوهر العقيدة العسكرية الجديدة تكشف لنا أنها لا تطول فقط إحداث ما يسمى بـ "الثورة في المسائل العسكرية" بل توظيف هذه التقنيات الجديدة لتحقيق " تفوق نوعي على الخصم " يتيح ضمان مبدأ " السيطرة الاستراتيجية " بالمطلق.

2- التخلي عن " استراتيجية الردع والاحتواء " التي حكمت السياسة الأمريكية إبان "الحرب الباردة " وتبني استراتيجية " الهجوم الوقائي ". ويعد هذا تحولا مهما في الفكر الاستراتيجي الأمريكي. واستنادا إلى تصريحات مسؤولين أمريكيين كبار فإن المبدأ الاستراتيجي الجديد يبتعد كثيرا عن سياسة الحرب الباردة التي كانت تقوم على الردع والاحتواء ليصبح جزءا من أول استراتيجية للأمن القومي تقوم على فكرة الهجوم الوقائي. واعتبر العديد من المحلّلين هذا التوّجه أكبر تغيير في الاستراتيجية الأمنية - العسكرية منذ حقبة أربعينات القرن العشرين حين أسس الرئيس هاري ترومان الـ (سي آي إي) والـ(اف بي آي) والبنتاغون. فهذه الاستراتيجية ستبتعد عن مبدأ عمره أكثر من نصف قرن في السياستين الدفاعية والخارجية الأمريكية هو الاحتواء والردع، وتقترب من نظرية (التدخل الدفاعي) و(الهجوم الوقائي).

3- صياغة تعريف جديد للأخطار التي على الولايات المتحدة مواجهتها. فجمع في " معسكر الأعداء " نفسه " المنظمات الإرهابية " ذات "التطلعات الدولية" والدول التي تساندها وخصوصا تلك التي يمكن أن تمدها بأسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيميائية) والتي تقوم هذه الدول بتطويرها. فالخطر لا يتحدد فقط بمصدره بل أيضا بطبيعته...وارتباطا بذلك باتت الولايات المتحدة تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، أو ردا على هجمات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية أو عند حدوث " تطورات عسكرية مفاجئة " ذات طبيعة غير محددة.

5- استكمال بناء أدوات السيطرة العسكرية على مراكز الطاقة في العالم بدأً من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى. وبهذا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية التحكم في السياسة العالمية عبر الهيمنة الاقتصادية.

6- وأخيرا فإن على الإدارة الأمريكية ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة وهي الدولة الكبرى التي تقف على رأس منظومة الدول الكبرى في هذا العالم:ان تصغي لكل رأي منهجي منطقي ورؤيا موضوعية واقعية فيما يتعلق باتخاذ نهج جديد للتعاون الإقليمي والدولي من أجل استتباب الأمن في المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص وان تعمل الولايات المتحدة على انجاح تظافر الجهود الدولية والاقليمية .

7- وعليها ان تستبدل هذه النظرية الهدامة بإقامة ومد جسور التفاهم بينها دول العالم للاتفاق على صيغ عملية تؤدي الى بسط الأمن والأمان في المنطقة الغنية بالموارد والتي تشكل شريانا نفطيا وتجاريا مهما بالنسبة لدول الغرب..والاستفادة من دروس وعبر التجارب التي مرت بها الولايات المتحدة لكي يعم السلام في هذا العالم وبغير هذا التعاون سيبقى التوتر والأزمات المتلاحقة وهضم حقوق الشعوب وتطلعاتها في العراق والمنطقة والعالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق