الجمعة، 19 أغسطس 2011

موقع الكاتب محمد سعيد الأمجد: العيش خارج اللحظة!! تقرير لاشكالية الاعلام العراقي

العيش خارج اللحظة!! تقرير لاشكالية الاعلام العراقي



من المؤكد أن العهد الإعلامي الجديد لا تمكن مقارنته بإعلام الحقبة البائدة . ففي تلك الحقبة لا يمكن القول إنه كان يشكل ظاهرة تستحق التأمل أو الدراسة، فقد كان سلطوياً بامتياز، أي انه كان مكرسا للسلطة الحاكمة بكل خطوطه، وفي السنوات الأخيرة أصبح مكرساً لشخص واحد. انه كان إعلاماً موجهاً، ابتداء من انتقاء الكلمات، والمواضيع، وانتهاء بالكتاب والصحافيين الذين يرشّحون للكتابة في المواضيع الحساسة بالخصوص.


وهذا أيضاً تجلى في عدد المنابر، اذ لم يكن هناك سوى ثلاث أو أربع صحف، ومحطتي إذاعة وثلاث محطات تلفزيونية، احداها مملوكة لإبن الرئيس عدي صدام حسين، مع الأخذ بعين الإعتبار حقيقة أن كافة المنابر تلك لا تختلف كثيراً في مضمون الرسالة الإعلامية أو التحليل، أو حتى أحياناً أسماء الكتاب، مما جعل ذلك الإعلام يصنف في خانة الإعلام الموجه، المراقب، والخالي من الروح الإبداعية، سواء على صعيد الفكر السياسي أو على صعيد الكليشهات التعبيرية في المقالات والآراء والتحليلات والصورة وآليات العمل.

كل ذلك لم يعد موجوداً في إعلام العراق اليوم، على العكس. إنه يشكو من كثافة التنوع والفوضى المهيمنة عليه، وتباين الأساليب والآراء الفكرية، ومهنية أو عدم مهنية الصحف والفضائيات والإذاعات. هناك اليوم اكثر من عشرين فضائية، وعشرات الصحف اليومية والإذاعات، وعشرات المجلات الثقافية والفكرية في بغداد وحدها، عدا الوسائل الإعلامية في المحافظات.. لكن ما يلفت النظر اليوم في الإعلام العراقي، مقارنة مع الإعلام العربي عموماً، وجود حقيقتين: الأولى هي عدم وجود وزارة إعلام عراقية، وبذلك تخلصنا من عبء مؤسسة بيروقراطية، متوارثة، ذات ماض سلطوي دائماً.. والثانية غياب الرقابة الحكومية، المسلطة على رؤوس المفكرين وأحرار الإبداع والصحافيين، وهذا ما أضفى صبغة من التميز على الحقبة الإعلامية الحاضرة، وهي تعكس، بشكل مباشر، واقع ما يمر به العراق حالياً، لا على الصعيد الإعلامي فقط ولكن على كافة الأصعدة.

لكن غياب وزارة إعلام ورقابة على المطبوعات، لا يعني بالمحصلة أن هذا الإعلام صار حراً مئة بالمئة، فثمة خطوط حمر غير مرئية، يستشعرها معظم الكتاب والصحافيين ورؤساء التحرير في تلك الصحف والإذاعات والفضائيات.

وهي من زاوية معينة تمتلك جانباً ايجابياً، ومن زاوية أخرى تمتلك جانباً سلبياً، على اعتبار ان غياب أي فحص لمستوى الخطاب يؤدي إلى الفجاجة والسطحية والإبتذال غالبا.. وتتوزع المنابر الإعلامية على نوعين: تلك التابعة لطائفة او قومية، وتلك التابعة لأحزاب سياسية، ولحد الآن لم يصبح هناك قانون يحدد الشروط المتوفرة لفتح الوسيلة الإعلامية، مع أن الدستور حدد خطوطا عامة لتنظيم الإعلام.

لقد جاء العراق في طليعة الدول التي قدمت ضحايا في حقل الصحافة والإعلام، اذ قتل او اختطف اكثر من مئة صحافي عراقي، وأجنبي، خلال السنوات الثلاث السابقة، بعضهم قتل او اختطف بسبب كتاباته، والبعض بسبب الهوية المذهبية. وهذا أحد جوانب المعركة الدائرة على المستويات كافة في ساحة العراق، مع التنويه إلى أن الأداء العراقي، الحكومي والشعبي والمؤسساتي، ونتيجة لضعف المهنية، والتشرذم الموجود، ومحلية الأفكار والطروحات، لم يستطع ايصال رسالته إلى الجمهور العربي، ولا الوقوف بندية تجاه الإعلام التخريبي، والمتشفي بما يجري على الأرض.

والملاحظ أن الهبّة الإعلامية التي بزغت بعد سقوط النظام، مرت بتحولات عديدة، وهذا أمر بديهي ضمن بكورة الحرية الإعلامية التي يعيشها العراق. ففي البدء كان المهم هو تأسيس الوسيلة الإعلامية لكي تنطق بإسم هذا الحزب او التيار، وكان التأسيس عادة ما يترافق مع تدني المستوى، والخطاب المباشر الشعبوي والحزبي، وعدم تقدير وقع الخطاب على القوى السياسية الأخرى، أو على الجماهير.

لكن المشاكل التي يسببها هكذا نمط من الإعلام سرعان ما بدأت تظهر إلى السطح، وجعلت القائمين على وسائل الإعلام تلك يستفيدون من الأخطاء وردات الفعل تلك، فيعدّلون او يلطّفون من المباشرة، ليصبح الخطاب اكثر دبلوماسية وأكثر دقة.

كثير من الكتاب والباحثين والمؤلفين لا تتاح لهم فرص التواصل مع قرّائهم والإطلاع على إنتاجهم ولا تتحقق لكثيرين منهم إقامة علاقة مباشرة قابلة للنمو مع جمهور لا يقرأ بسبب أميته الألفبائية أو الثقافية، مما تستطيع المنابر الإعلامية تحقيقه بسبب انتشارها واقتدارها على التوصيل بالوسائل المسموعة والمسموعة المرئية لذلك النوع من الجماهير.. وعليه فلابد من السعي إلى تشخيص واقع الإعلام العراقي ، وتقويم أدائه وخطابه ومضامينه، واستقصاء وظائفه المجتمعية، والتحقق من مدى تأثير وسائل الإعلام العربية في تشكيل الرأي العام من جهة ، ودورها في صوغ المدركات الغربية إزاء العرب من جهة أخرى، إضافة إلى التدقيق في تجربة القنوات الإخبارية العربية الحديثة العهد.

إن الأزمة التي يمر بها الإعلام العراقي كبيرة ومعقدة، خصوصاً أنها تلتقي مع عدة خطوط متشابكة ومتعارضة بين السياسة ومصالحها، والاقتصاد واستثماراته، والقيم بين الثبات والتغير.. لذلك فالبحث عن حلول جزئية لأزمة الإعلام الهادف المعتدل في العراق لن تكون مجدية، فإننا مطالبون جميعاً بالعمل كل على حسب إمكانياته واستطاعته ووفق المكان الذي يحتله من اجل حل شامل يعالج اشكالية التخلف في خطابنا الاعلامي فنيا ومضمونيا .

والامر لايلقى على كاهل الكتاب والاعلاميين وأعضاء النقابة وحدهم فالحكومة العراقية مطالبة بدور جدي في المسألة لأنها طرف رئيسي فاعل في ايجاد الحل البديل الناجع ، وإن عدم مسارعتها للعب دور إيجابي سينعكس سلباً بالتأكيد على مصالحها فيما بعد، لأننا نعيش عصراً إلكترونياً يفرض انفتاحاً في كل يوم أكبر وأوسع من اليوم الذي يليه، ولن يكون في المستقبل للحكومات سلطة عليا على الرقابة الإعلامية، فالتطور في عالم الإعلام والاتصالات يتقدم بسرعة هائلة دون أن تكون للحكومات العربية القدرة على كبح جماحه.. وإلى جانب الحكومة طبعا يبرز دور المجتمع المدني بكل فئاته ومؤسساته.

إننا بحاجة إلى حلول شاملة نابعة من تعميق وعينا بالعملية الاعلامية حينها سنتجاوز شيئاً من أزمة التخلف التي تعصف بكل شيء وتنذر بتغيير بدأ على مختلف الصعد، وهذا التغيير قد يكون إيجابياً، ولكنه لن يخلو من الشوائب والسلبيات القاتلة إذا لم يتوفر الترشيح والنقد والترشيد المناسب .. نحن بحاجة إلى إعلام حضاري ممنهج يرتكز على استراتيجيات ووسائل واضحة وذات أهداف نبيلة ورسالة سامية ، ومن اهم هذه الوسائل العصرية هو الاعلام الهادف الذي يوصل المجتمع الى الحالة الحضارية المنشودة.

والخلاصة التي يجب التنبه لها، هي أن الخطوط الواصلة بين الاعلام والحقائق ليست خطوطًا مستقيمة على طول الخط، وبأنه وقت الحروب والأزمات يجب توحيد الصفوف وتأجيل الخلافات، وعلينا أن نتمهل في إطلاق الأحكام وألا يحملنا الانفعال والحشد الإعلامي وأجنداته على هضم حقوق الآخرين، وتناسي حقائق التاريخ، والحقائق على الأرض أيضًا.. كما لا يجب قراءة اللحظة التي نحن فيها منعزلة ومفصولة عن الخارطة الجغرافية الكاملة وسياقاتها، وإلا عشنا خارج اللحظة والزمن!

الثلاثاء، 31 مايو 2011

مارد البحرين يحطم قمقمه.. فماذا أعددنا له!!


قبل كل شيء .. وبعيداً عن عوالم السياسة المظلمة أو الفهومات الظلامية وحتى عن جميع أنساق الانتماءات الفرعية وانزياحاتها .. لابد من القول أن حق الشعوب في العيش الكريم يستدعي وجود الوعي والادراك لدى حكوماتها فيما يتلق بمفاهيم حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة.. والتزامها بتطبيقها.

من ناحية أخرى .. ثمة شعور لدى الانسان العراقي ليس باعتباره انتماءً عربيا او اسلاميا او اجتماعيا او دينيا .. بل باعتباره انساناً ذاق الأمرين من لهيب السياسات الرعناء وسطوة الحديد والنار والتي أدت الى اكتواء ظهره وتكميم فمه وكسر قلمه عن البوح بأي شيء هو في الاساس أبجديات لحقوقه وحرياته الانسانية ..

ذلك الشعور وانطلاقته تلكم تحدوه لمداخلة موضوع انتفاضة الشعوب العربية والاسلامية وشعوب العالم.. وتمس الحاجة أكثر حينما يتصاعد المشهد الدرامي دون انفراج وتحت سيل من الظلامات والقمع تجاه شعب كالشعب البحريني الشقيق والذي تتكالب على انتفاضته جيوش قادمة من خارج البحرين ينص بروتوكولها على التصدي للعدوان الخارجي الذي يمكن أن يداهم أيأً من دول الخليج الاعضاء .. لاالاحتجاج الداخلي السلمي الذي يضع مطاليبه الاصلاحية والدستورية أمام ملكه بكل شجاعة ووعي..

وهو شبيه من حيث المكون الأساسي والوحدات المقومة له بنموذج تونس ومصر وليبيا واليمن فكل من هذه النماذج مارد نهض من قمقمه وحطمه وطالب بحقوقه وحرياته الطبيعية حينما ظن الجميع أنه نام مخدراً بالقات أو أشياء أخرى!!

وفي قراءة تحليلية مختصرة نرى بوضوح ان عناصر الحركة المطلبية في البحرين هي سلمية شعبية مشفوعة بدعوتها المشروعة إلى إرساء دعائم الرفاه الاجتماعي والديمقراطية وتكريس دولة العدل والقانون، وإرساء مبدأ التوزيع العادل للسلطة والثروة، وإنهاء سياسة التمييز الطائفي بكل أشكاله.. وهذا مايكاد المراقبون ان يجمعوا عليه لولا تخبط بعض القنوات الفضائية بقصد او بدون قصد ـ مع اني لا اجردها من القصدية ـ في تحريف وتشويه صورة المشهد الحركي في البحرين باتجاهات فرعية وطائفية او مذهبية لاترقى الى اية مرحلة من مراحل تطور المشهد..

الأمر الذي يؤشر ضرورة المشاركة ـ ولو بالكلمة الطيبة النابضة بالحقيقة ـ في دعم القوى الشعبية المطالبة بحقوقها ، مع تحري خرائط تحقيق الاستقرار والسلام والأمن في المنطقة ، ليكون الموقف الذي يتبناه المثقف رسميا هو الوقوف مع الثورات الشعبية السلمية التي عمّت العالم العربي ..

هنا أريد أن أسجل الاكبار والاجلال لموقف الدعاة والقائمين على مؤتمر نصرة ودعم إرادة الشعب البحريني والذي عقد في بغداد، على مدى يومي الجمعة والسبت من الأول والثاني من نيسان (إبريل) الماضي هذا العام حيث دعا المشاركون وبعد مناقشات مستفيضة للمحاور الرئيسية الواردة في جدول أعمال المؤتمر إلى:

ـ الوقف الفوري للعمليات العسكرية والأمنية ضد الشعب البحريني المسالم.

ـ السحب الفوري لقوات درع الجزيرة من البحرين.

ـ الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والضمير وتبييض السجون، ووقف الاعتقالات العشوائية.

ـ تعويض ذوي الشهداء والجرحى والمتضررين جراء الاعتداءات منذ خروج التظاهرات السلمية في الرابع عشر من شباط (فبراير) الماضي.

ـ دعوة المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق فوري ونزيه في جرائم الإبادة ضد الإنسانية وتقديم المتورّطين في استعمال العنف والرصاص الحي ضد المتظاهرين بصورة سلمية للعدالة .

ـ وقف حملات التحريض الإعلامي والثقافي والديني التي تدعو إلى الاحتقان والاصطفاف الطائفي.

ـ تقديم المستلزمات الإنسانية والطبية العاجلة لأبناء الشعب البحريني، وإزالة جميع الموانع التي تحول دون حركة المواطنين بصورة طبيعية.

ـ دعوة الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجلس الأمن الدولي للتحرّك الفوري لاتخاذ القرارات التنفيذية اللازمة لمعالجة الوضع الذي يهدد الأمن والسلم في المنطقة.



فهي وقفة عراقية أصيلة لثلة واعية ومثقفة من أبناء الشعب العراقي ، تزحف باتجاه مساندة شعب البحرين في قضيته العادلة، وتستثمر الفرصة لتعكس هوية عربية واسلامية انسانية شعبية جديدة تتلاءم مع الحراك المعاصر السلمي تجاه تحقيق المطالب .. كما توجه خلالها رسالة حب وتقدير للشعب البحريني ودعم لحركته السلمية ومطالبه المشروعة، وهي بمثابة اعلان شعبي عن تضامن النخبة ووقوفها معه في نضاله من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة الانسانية ..

وعليه ووفق هذه المعطيات الجديدة لحركة الجماهير واحاسيسها السياسية المشتركة .. لابد من بلورة موقف النخب العراقية والعربية لدعم الحقوق المشروعة للشعوب وإسناد تطلعاتها لتأهيل البلاد سياسيا واجتماعيا تجاه تطبيق قواعد العملية الديمقراطية..

ويتجلى هذا الموقف الداعم بعدة صور تختزلها مقولة الكلمة الصادقة الجريئة الشجاعة الهادفة ، كما يتجلى في تحريك المنظمات الإقليمية والدولية ومؤسسات المجتمع المدني ودعاة العدالة والسلام والمدافعين عن حقوق الإنسان في كافة أنحاء العالم لمناصرة الشعب البحريني والعمل الفوري على وقف المجازر والانتهاكات المستمرة بحق العزل والأبرياء من أبناء البحرين..

أما مبادرات الحوار فلا بد أن تبتنى على أساس النقاط السبع التي أعلنتها الحكومة في وقت سابق وقبل تصاعد المشهد الدرامي الدموي وبرعاية مرجعيات دينية وسياسية واجتماعية.. وتهيئة الجو المناسب لخلق أرضية صالحة للحوار..

المهم أن مارد الشعب البحريني العازم على تحطم قمقمه ايضا كبقية الشعوب المطالبة بحقوقها وحرياتها .. فلابد أن نعدّ له شيئاّ - ولو كلمة – تتلاءم مع طبيعة شعورنا السياسي الانساني الجديد بشعوب العالم وتضاريس حركاتها المعاصرة..



الخميس، 14 أبريل 2011

فيسبوكية اليوم ؛ صباح الورد.. انت معقدة!


(صباح الورد .. شكرا جزيلا لك .. عيونك الحلوة .. أسأل عنك.. ههههه..  ) وماالى ذلك ..
هكذا تبدأ معظم المحادثات على النت والمراسلات التي تتم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي واشهرها الفيس بوك.. هذا فيما تمس الحاجة الى نظرة ورؤية نقدية أخرى لوسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي الحديثة .. رؤية قائمة على اساس فلسفة اجتماعية مثمرة وصادقة .. لاتدع العين وفقها تقع الا على ماهو اصيل ونقي وجميل وصادق.. وهو الامر الذي جعل الكثير ممن يتحرون الصدق في العلاقة الاجتماعية ينسحبون من هذه المواقع والوسائل والغاء وتجاهل كل من يعرفونهم فيها عدا بعض الاصدقاء الطيبين والمخلصين الواعين..
تسأل أحدهم : لماذا ؟ يجيبك : ( صدقني لا لشي.. بس تعبت من المجاملات.. واعرف انهم ليسو صادقين.. مجرد كلام يقال.. ولااحبذ هذا الشي.. لهذا تراني وحيدة دائما.. او اقطع معرفتي بمن لايستحق.. )!!

أقول هنالك رؤية خاصة لمواقع التواصل الاجتماعي هذه، نحن جعلناها بحيث تأخذ منا أكثر مماتعطينا.. تأخذ منا خصوصياتنا وتشكلها بهيئة قنوات اعلامية ومنابر ربحية وتجارية لها .. وهي قائمة بنا وبدوننا هي لاشيء لا وجود لها.. لكنها  لاتعطينا سوى المجاملات غير المبنية على الصدق والعواطف المنفعلة بلحظاتها غير المدروسة وتقوم في معظمها على اساس التوافق الخداع والصدفة وتبادل المصالح..

أجابني أحدهم ذات يوم بأنه يتفق معي في هذا الكلام ، متحدثا عن تجربته قائلا: (انا اعرف حدودي جيدا.. كنت اتواصل ظنا مني انني سأجد اناسا يصدقون.. لكن واقعهم مثل اختبائهم خلف النت تماما)!!

ففي رأيي أن القضية بحاجة الى الصدق مع الذات حتى يكون هناك صدق مع الاخرين اذا استثنينا النخبة وهؤلاء ايضا مبتلون بامور اخرى ، كل واحد ملتقي مع نقيضه ولايتعرف على نظيره..

وهمست في أذني إحدى الصادقات ؛ ( يوميا كنت اجد ( اوف لاينات ) لزملاء عمل لمجرد انهم يجب ان يتواصلوا ولاتفوتهم الفرصة التي لاتتعوض للحديث معي.. ليس غرورا بل تقريرا لواقع عشته .. وحينما ينصدمون بصدي لهم يقولون : فرصة سعيدة.. او انت معقدة  !! وقد يأتي أحدهم بخطاب مغاير ويقول : انا افهمك جيدا وانا رجل افهم كيف يفكر الرجال .. لكن الفرق انيي ابحث عن شيء آخر عقلي عاطفي اكثر مما هو جسدي .. لذلك تفكيري افضل واعقل!! ولأنني بطبعي لا احصر تفكيري بحدود الكلام والادعاء أفسح المجال له ليتحدث لكن بمجرد خوضه الكلام معي يبدأ بطرح الهدف من العلاقة فأجيبه بمأجيب به غيره ينصدم ويبتعد) !!

والظاهر أن الجميع متعودون على نمط معين وينهزمون لان الكلام واللقاء الاجتماعي عبر النت يحدث اختلافا في التوقعات ويكشف عن اختلاف في جهة البحث بينهما.. ولأن لسائد من تفكير الشباب اليوم مثل ماهم يفكرون فينصدمون اذا واجهوا احدى المتميزات المتعقلات فتصبح مكروهة مختلفة بالنسبة للغالب فهي تدفع ضريبة التزامها..

 وأخير أقول لها كما أقول لكل الملتزمين : اصبروا (والعاقبة للمتقين).. وتصرفوا وفق مايمليه عليكم ضميركم وشخصيتكم الاجتماعية بكل ماتحفل به فكرا وعقلا وحضورا وان لاتتعودوا على تردد الآخرين وقلقهم النفسي وتخوفهم من الصدق مع الذات فالمتحدث على النت ليس فيه استاذ وتلميذة .. في هذه الحياة وفي هذا الأمر بالذات انت لست تلميذة ياسيدتي الجميلة بل استاذة يستفيد الرجل من تجاربها وحكمها مثل ما يريد يفيدها بتجاربه بلافرق .. انت بالنسبة له كيان ووجود رائع وراقي وله خصوصيته الفكرية والشخصية وهذا معنى المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة..

الأربعاء، 6 أبريل 2011

ملاحظات على نظرية الفوضى الخلاقة


يطرح المؤرخ الامريكي (إريك هوبسبوم) تساؤلا منطقيا فيقول: " هل تسعى الولايات المتحدة لقيادة العالم أم للسيطرة عليه " ؟
وفي نفس الاتجاه تحدث مستشار الامن السابق الجنرال ( زبجينيو بريجينسكي) محللا الاتجاهات الامريكية الحديثة في السيطرة على العالم، وقد كان اكثر واقعية من الكثير من الساسة الامريكيين والاوربيين حين قال: " يجب على الولايات المتحدة ان لا تخلط بين قوتها والقوة اللامحدودة " .

ان الفراغ السياسي الدولي الذي احدثته الولايات المتحدة بعد انهيارالاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية فرض نظرية القطب الواحد الذي سعى الى تحقيق ما بات يعرف (بالعالم الجديد)، وهو عالم تحلم الامبراطورية الامريكية الحديثة الى ان يكون علما يخفق وفق النبض الامريكي، وإن كانت هذه النظرة تحمل شيئا من التشاؤمية تجاه المستقبل إلا ان الولايات المتحدة فعلاً سعت الى ان تظهر للعالم بانها تملك القوة غير المحدودة، ولذا ادعت انه يجب على العالم الخضوع لمنهجها ورؤياها المستقبلية.

ومن هنا حشدت الولايات حشودها لضرب طاغية العراق، لتبعث رسالة مفادها انها قادرة على تكرار الفعل في كل مرة تجد فيها نفسها مضطرة لتكراره. وقد تم توجيه هذه الرسالة ايضا للمحافل الاوربية التي وقف البعض منها في الجانب الرافض للحرب الامريكية.

لقد اختارت الولايات المتحدة ان لاتبقى مجرد جزيرة كبيرة تمثل حلما للعالم الجديد، فدست بقوتها في الشؤون الدولية، مستغلة نقاط الضعف التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ساعدها على ذلك انها وطيلة اكثر من قرن تنشيء نظاما داخليا متفردا، كماانها عملت على تركيز القوة الداخلية، واستيعاب النظريات السياسية والعلمية، حتى صارت نزعة الهيمنة جزءا من مناهج التفكير في مدارسها السياسية والحزبية.

ولا أظنني أجانب الصواب حينما أقول أنه حتى الامبراطوريات القديمة (الرومانية والصينية والبريطانية) لم تعرف تركيزا للقوة كالذي عرفته الولايات المتحدة، فكانت الحرب الباردة، والتنافس على الهيمنة الكونية عبر برامج الفضاء، والاقتصاد ثم القوة العسكرية الهائلة. قد وضعت واشنطن في مركز القرار الدولي قبل ان تتفرد بالقرار في اوائل التسعينات من القرن الماضي.

لكن الباحث المتخصص سيجد ان قوة الولايات المتحدة ليست ذاتية بشكل مطلق بقدر ما هي نتاج لضعف الآخرين وتشتتهم. كما لم تكن 11 سبتمبر 2001 هي البداية في الظهور الكاسح للهيمنة الامريكية بقدر ما كانت احدى مفاتيح بوابات (نظرية العالم الجديد)، وتبريرا لفعل مستقبلي سيضع السياسة الدولية امام مواجهة ستكون بالتأكيد اكثر تأثيرا من ايقاعات الحربين العالميتين الاولى والثانية.

فالولايات المتحدة لم تحتج الى عقود زمنية لترتب اوراقها، ولا الى الكثير من المفاوضات لتبدأ المراحل المتقدمة من مشروعها العالمي الذي يسعى الى اخضاع الجميع وكان عليها ان تستغل تشتت وتباين القرار الاوربي ووقوف حكومة بلير الى جانبها اوربيا لضرب مراكز القوى الاخرى.

ولما كان النظام الدكتاتوري في العراق قد اصبح من اكثر الانظمة فسادا وتهديدا للامن الدولي والاقليمي، فقد استغلت قيادات البيت الابيض وخاصة مجموعة (المحافظين الجدد) هذه التطورات لتسارع في خلق حالة من الخوف تجاه كل ما هو ليس غربي، من جهة وتجاه التطرف الاسلامي الذي اتسم بالكثير من العنف والابتعاد عن روح الاسلام من جهة أخرى.

إن التداعيات الدولية وضعت اهم مراكز القوى الشرقية في مواجهة الهيمنة الامريكية، مثل إيران وكوريا الشمالية وبعض مراكز القوى في امريكا اللاتينية، والتي شعرت في نفس الوقت ان الهيمنة الامريكية لايمكن أن تستمر الى مالانهاية.

إن إشاعة هذا المصطلح (الفوضى الخلاقة) على نطاق واسع يؤكد أن المرحلة الثانية من الاستراتيجية العالمية تحولت إلى خطة يتم الشروع في تنفيذها بالفعل على أرض الواقع. وإذا كانت المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية جرت تحت شعار "الحرب على الإرهاب" ، فإن المرحلة التالية من هذه الاستراتيجية ستجري تحت شعار "الحرب على الاستبداد ونشر الديمقراطية" وتستهدف إسقاط " انظمة الاستبداد "، وإدخال إصلاحات سياسية بعيدة المدى في العالم العربي. الفرق بين المرحلتين أن الأولى تطلبت استخداماً مكثفاً للقوة العسكرية واحتلالاً فعلياً للدول المستهدفة، أما الثانية فستعتمد على الوسائل غير العسكرية في المقام الأول، ولكن من دون استبعاد كلي للقوة العسكرية.

واذا اخذنا بالقول الذي يرجع هذه النظرية الى (مايكل ليدن) الذي يرى ان التدمير البنّاء هو صفتنا المركزية‏..‏ وأن الوقت قد حان لكي نصدرالثورة الاجتماعية، وتعود الخلفية النظرية لهذا المفهوم إلى محاولة ترتيب أفكار ومعتقدات المحافظين الجدد وآبائهم الفكريين، وعلى رأسهم (ليو شتراوس)، المدافع عن الفلسفة الكلاسيكية ومنطلقاتها الأخلاقية، والداعي إلى الدفاع عن مصالحها بالقوة، مع أفكار أخرى لعل أهمها مقولة (فجوة الاستقرار) عند صمويل هنتنجتون صاحب نظرية (صدام الحضارات) في معالجته للتنمية السياسية. فهذه الفجوة، حسب هنتنجتون، تولد إحباطا ونقمة في أوساط المجتمع مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي.

فالإحباط الاجتماعي يولد المزيد من اللااستقرار إذ ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القدرة والقابلية على التكييف الإيجابي، لأن الإحباط ومشاعر الاحتقان التي تزيد هذه الفجوة يتمخض عنها مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متوقعة، تفرض على مؤسسات النظام التكيف من خلال توسيع المشاركة السياسية واستيعاب هذه المطالب، أما إذا كانت هذه المؤسسات محكومة بالنظرة الاحادية، فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لهذه المطالب إلا بالمزيد من الفوضى، التي ستعمل في نهاية الأمر على استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.

ويصل البروفسور بارنيت إلي مرحلة " الفوضي الخلاقة "‏,‏‏ حيث يتصور شكلا معينا لامكان حدوثها‏,‏ من نوع الانهيار الكبير أو التفكك الاقليمي‏.‏ وحسب خطة الاستراتيجية الجديدة يأتي التدخل المباشر من قوة خارجية في حالة حدوث الفوضى‏.‏

ان الاستجابة لتوسيع دائرة فهم ( الفوضي الخلاقة‏),‏ راجع إلي أنها لم تعد مجرد طرح نظري فقط‏, ولكنها استراتيجية يجري تنفيذها بالملموس.

ويبدو من قراءة صاحية للافكار اعلاه ان صناعة الفوضي نابعة على ما يبدو من ايمان عقائدي عميق لدى من يصنعون السياسة الخارجية الأمريكية والقائم على فكرة مضمونها ان التغيير في حد ذاته لا يكفي‏,‏ وأن الأوضاع الداخلية في المنطقة وثقافتها تحتاج تحولا شاملا ‏transforming‏ ‏.‏ ومن هنا كان ولع المنظرين الاستراتيجيين هؤلاء بمفاهيم من قبيل: التدمير الخلاق والفوضى الخلاقة‏,‏ التي تعقبها ازالة الأنقاض والاشلاء‏,‏ ثم تصميم جديد لبناء مختلف‏.‏

ان هذه الاستراتيجية تكشف، عن تدبير ملموس للتدخل المباشر في شئون المنطقة‏,‏ وهي بمثابة اعلان او اعادة تأكيد لاحد معالم الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق الاصلاح الداخلي والديمقراطي في منطقة الشرق الاوسط حيث ان الشأن الداخلي لم يعد شأنا داخليا,‏وفق تعريف جديد يجعل من التغيير في الداخل أمر يخدم الأمن القومي للولايات المتحدة, ‏ويزيل التهديدات له.

ورغم ذلك كله هناك هدفان يقعان في صلب الاستراتيجيا الاميركية، وهما ضمان الهيمنة على موارد الطاقة، وممارسة سيطرة متعاظمة على الكرة الارضية. وبغض النظر عن النتائج الفعلية فإن هذين الهدفين يظلان ماثلين على الدوام، وليس هناك ما يدعو – من وجهة نظر صقور المحافظين الجدد وغيرهم كذلك – الى التخلي عنهما أو التقليل من اهميتهما.

واخيرا فلا يمكن فهم الجوهر والمغازي الفعلية لنظرية (الفوضى الخلاقة) دون ربطها بالتحولات الجذرية التي شهدتها الاستراتيجية الامريكية بعد احداث 11 سبتمبر 2001، وهذا يستدعي عرضا مكثفا لأبرز معالم هذه الاستراتيجية فهي:

1- الانفراد بالتفوق العسكري المطلق بما يحقق السيطرة الاستراتيجية الكاملة. لاشك أن قراءة متفحصة لجوهر العقيدة العسكرية الجديدة تكشف لنا أنها لا تطول فقط إحداث ما يسمى بـ "الثورة في المسائل العسكرية" بل توظيف هذه التقنيات الجديدة لتحقيق " تفوق نوعي على الخصم " يتيح ضمان مبدأ " السيطرة الاستراتيجية " بالمطلق.

2- التخلي عن " استراتيجية الردع والاحتواء " التي حكمت السياسة الأمريكية إبان "الحرب الباردة " وتبني استراتيجية " الهجوم الوقائي ". ويعد هذا تحولا مهما في الفكر الاستراتيجي الأمريكي. واستنادا إلى تصريحات مسؤولين أمريكيين كبار فإن المبدأ الاستراتيجي الجديد يبتعد كثيرا عن سياسة الحرب الباردة التي كانت تقوم على الردع والاحتواء ليصبح جزءا من أول استراتيجية للأمن القومي تقوم على فكرة الهجوم الوقائي. واعتبر العديد من المحلّلين هذا التوّجه أكبر تغيير في الاستراتيجية الأمنية - العسكرية منذ حقبة أربعينات القرن العشرين حين أسس الرئيس هاري ترومان الـ (سي آي إي) والـ(اف بي آي) والبنتاغون. فهذه الاستراتيجية ستبتعد عن مبدأ عمره أكثر من نصف قرن في السياستين الدفاعية والخارجية الأمريكية هو الاحتواء والردع، وتقترب من نظرية (التدخل الدفاعي) و(الهجوم الوقائي).

3- صياغة تعريف جديد للأخطار التي على الولايات المتحدة مواجهتها. فجمع في " معسكر الأعداء " نفسه " المنظمات الإرهابية " ذات "التطلعات الدولية" والدول التي تساندها وخصوصا تلك التي يمكن أن تمدها بأسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيميائية) والتي تقوم هذه الدول بتطويرها. فالخطر لا يتحدد فقط بمصدره بل أيضا بطبيعته...وارتباطا بذلك باتت الولايات المتحدة تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، أو ردا على هجمات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية أو عند حدوث " تطورات عسكرية مفاجئة " ذات طبيعة غير محددة.

5- استكمال بناء أدوات السيطرة العسكرية على مراكز الطاقة في العالم بدأً من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى. وبهذا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية التحكم في السياسة العالمية عبر الهيمنة الاقتصادية.

6- وأخيرا فإن على الإدارة الأمريكية ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة وهي الدولة الكبرى التي تقف على رأس منظومة الدول الكبرى في هذا العالم:ان تصغي لكل رأي منهجي منطقي ورؤيا موضوعية واقعية فيما يتعلق باتخاذ نهج جديد للتعاون الإقليمي والدولي من أجل استتباب الأمن في المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص وان تعمل الولايات المتحدة على انجاح تظافر الجهود الدولية والاقليمية .

7- وعليها ان تستبدل هذه النظرية الهدامة بإقامة ومد جسور التفاهم بينها دول العالم للاتفاق على صيغ عملية تؤدي الى بسط الأمن والأمان في المنطقة الغنية بالموارد والتي تشكل شريانا نفطيا وتجاريا مهما بالنسبة لدول الغرب..والاستفادة من دروس وعبر التجارب التي مرت بها الولايات المتحدة لكي يعم السلام في هذا العالم وبغير هذا التعاون سيبقى التوتر والأزمات المتلاحقة وهضم حقوق الشعوب وتطلعاتها في العراق والمنطقة والعالم.

الأحد، 12 ديسمبر 2010

نحو قراءة فلسفية أعمق لخطاب النهضة الحسينية..





لا يمكن للباحث الولوج الى آفاق العظمة عند الإمام الحسين ، إلا بمقدار ما نملك من بعد في التصور، وانكشاف في الرؤية، وسمو في الروح والذات... فكلما تصاعدت هذه الأبعاد، واتسعت هذه الأطر، كلما كان الانفتاح على آفاق العظمة في حياة الإمام الحسين أكثر وضوحاً، وأبعد عمقاً... وفي السنين الأخيرة حدث تطور فكري باتجاه قراءات جديدة للفكر العربي ألقت بأثرها على قراءة التاريخ الإسلامي وخصوص ثورة الإمام الحسين في كربلاء ، مما أدى الى المزيد من استكناه دلالاتها في الحياة السياسية والاجتماعية والانسانية..


إن المتتبع لمراحل التاريخ الإسلامي يجد الكثير من الحركات التي تبنّت الدعوة إلى تنقية الفكر والعقيدة والواقع وإصلاحه ، لكنها كانت على الدوام تقع في إشكالية الفهم التجزيئي للإسلام وفهم مقاصده ، والخلط بين الوسائل والغايات ، فكانت تكرّس واقع الجمود في الأمة ، أو تصبح مدخلاً للتطرف والفكر التكفيري وشق صف الأمة ..


والذي يلاحظه الباحثون والنقاد انه قد أدّى التركيز على عنصر المأساة التي وقعت في كربلاء، إلى اختزال تعاليم هذه المدرسة الفكرية العظيمة بعنصر المصيبة الفاجعة التي حلّت بالحسين وأهل بيته وأصحابه وغابت عن أنظارنا الأهداف التي سعى مهندس وعي النهضة الى تحقيقها حتى خيّل للبعض أن النتائج ( الموت والسبي..) التي حصلت في كربلاء هي الأهداف التي سعى الإمام الحسين لتحقيقها من أول الأمر مع أن الإختلاف بين النتائج والأهداف يجب أن يكون من الواضحات. فإن النتائج المأساوية قد صنعها المستبدون والطغاة لتعطيل حركة الإمام الحسين باتجاه الأهداف (الاصلاح والوعي الديني).


ان تأثير قضية الإمام الحسين تتجاوز زمانها ومكانها ، وهي قد أنتجت حركة فكرية ثقافية واسعة تطال مختلف جوانب المعرفة والحياة، كما قدمت منظومة مناقبية جديدة، تنبثق من روح المسؤولية والالتزام الأخلاقي، وتجلى ذلك في أخلاقيات معسكري الحادثة، حيث معسكر الإمام الحسين وأنصاره الذين دافعوا بعز وفداء وأخلاقية عالية عن الدين والمصلحة العامة، في مقابل من في المعسكر الآخر الذين سيطرت عليهم الأنا والمصالح والانتهازية على حساب ضمائرهم ودينهم وأمتهم.


فالاصلاح الذي رفع شعاره الإمام الحسين (ع) هو إحياء وتحديث لأمر أو منهج له سابقة ، لذلك يمنح الإمام الحسين (ع) هذه المسألة في نهضته بُعداً حركياً ينبغي أن نمضي في دراسة حركته الاصلاحية على هديه فنأخذ بالأهداف السياسية والاحتماعية ونبتعد عن النتائج التي ارتبطت بخذلان الناس وارهابية السلطة الحاكمة وظروفها الزمكانية..


عندما طرح الإمام الحسين(ع) مشروعه لم ينطلق في خطابه من حالة مذهبية، بل من خلال البعد الانساني للإسلام، وبخطاب إسلامي الإطار حسيني المفردة واقعي الابداع .


يقول جرهارد كنسلمان: ( إن الحسين ومن خلال ذكائه قاوم خصمه الذي ألب المشاعر ضد آل علي وكشف يزيد عبر موقفه الشريف والمتحفظ فلقد كان واقعيا ولقد أدرك إن بني أمية يحكمون قبضتهم على الإمبراطورية الإسلامية الواسعة).


ولذا فقد كان الامام الحسين إنسانياً حتى في نظرته للثورة وتفاعله معها وتفعيلها، فقد رفض ان يخضع خضوعا كليا للحتمية الاجتماعية والتاريخية لانه ربط الحتمية التاريخية بالاهداف التي وضعها جده الرسول الخاتم (ص)، وقد ربط الحتمية بالقيم الاخلاقية والدينية، فولادة الإمام الحسين عليه السلام كانت ولادة منهج الثورة في حركتها نحو تحقيق الأهداف الانسانية الكبرى ، كما أن بانوراما الاستشهاد هي آلية الثورة في تجاوزها لآنية الحدث وانفتاحها على كونية الفكر ولما يجب عليه ان تكون الامة..


( من كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا, فإني راحل مصُبحاً إن شاء الله تعالى ) .. بهذه الصيحة أطلق عوامل الإمتداد والتوهج وينحو بحركته النهضوية الكبيرة منحىً رساليا تعبدياً يسير وفق منهج يرسخ علاقة الانسان بالخالق في مجمل حركته في الواقع السياسي والاجتماعي ..وهذه الخصوصية المتأصلة في الحسين(ع) تولدت من عوامل أهمها؛ أنها كانت عملية ابداعية تكاد تتجاوز قيمة الشكل الفني لتصبح رؤيا مستقبلية للحياة، فقيمة التحرك الحسيني والخروج لـ( الحياة ) و( الفتح ) تكاد لاتختلف عن عملية الخلق أو النشأة الاولى ليس فقط باعتبارها إضافة نوعية للحياة، ولكن باعتبارها تفسيرا فلسفيا لغائية الوجود...وعندما يكون هذا الانسان إماما معصوما يمثل استيعابا كليا للوجود، كما يمثل استيعابا كليا لحركة الحياة.


وكان من ابرز الصفات المتجلية لدى نخبته التي تحركت معه وفق منهج إختيار وترشيح دقيق ؛ الصدق في الحركة الاصلاحية، والاخلاص في الثورة من دون ان تشوبها اغراض ومطامع دنيوية اخرى، والزهد في المناصب السياسية والدنيا، والتفاني في سبيل القائد.. ويجلى ذلك فيما أبدعه العباس وزينب وحبيب وجون وعابس وبرير وغيرهم والتصريحات التي انطلقت من افواه الرجال الذين كانوا بركب الحسين(ع) كمسلم وزهير وعلي الأكبر والقاسم وآخرين . وهذه المكرمات والصفات التي لازمت الحسين واهله واصحابه، وهي من العوامل المهمة في اضفاء صفة الجذابية على تلك النخب الطيبة ..


أما مفردات خطابه السياسي فنراه يستبطن مشروعاً تحريكياً وتفجيرياً لإرادة الإنسان وضميره الذي استبدلته الاجهزة الحاكمة بعضوٍ آخر لا نبض فيه ولا حركة ولا طموح . مركزاً على فرصة الخلود والرجوع الى الحق وتصويرها على أنها فرصة بيد إنسان ذلك العصر وكل عصر.. والمطلوب منه أن ينظر الى نفسه نظرة موضوعية لا تجزيئية, ويرى موقعه من حركة التاريخ وسير أحداثه, ويعي هذا الموقع وعياً عملياً يدعوه إلى البذل والتضحية ونكران الذات ليتحول فعله الى إرادة جماهيرية فاعلة تستنزل المفهوم إلى أرض الصراع وواقع المواجهة, ليتحرك (مفهوم الإرادة) على شكل واقع قيمي معطاء يدير كفة الصراع باتجاه طرف الحق والخير والفضيلة.. خلافا لأولئك متذبذبي الارداة, محدودي العطاء, مشلولي القدرة على التصميم, فانهم لن ينالوا شيئاً من هذا الفتحّ الحضاري العظيم الذي لا يزال يدوّي في عالم الخنوع رمزاً لكل الأحرار والرساليين.. وهذه هي الفلسفة التي حاولت أدبيات النهضة الحسينية أن تركّزها في وجدان الامة وذهنيّتها من خلال الفعّاليات المختلفة لرمزها الشهيد على أرض كربلاء.


فالخطاب الحسيني كان يمتح من عناصره الزمنية أي من بؤرة الصراع نفسها ففي زمن الإمام الحسين كانت القيادة الشرعية مشخّصة والحق واضحاً, إذ لم تكن لعبة خلافة يزيد لتنطلي على ابسط أفراد المجتمع, لما رأوه من نزقه وطيشه واستبداده, ولكن الأمة كانت مبتلية بمرض آخر وهو ضعف الارادة الذاتية وضمور قدرة الفرد على اتّخاد القرار الحاسم, نتيجة الترغيب والترهيب اللذّين كانت تمراسهما السلطة بحق الشعب.. فتولى الإمامة وهو يجد أمامه أمة خائرة في إرادتها متميّعة في ضميرها, ذليلة في موقفها, تلهث وراء المصالح الشخصية أو سبل الحفاظ على حياتها.. وحينما يبلغ الاعتداء حد تشويه ملامح هذه الرؤية وضياع رسمها بشكل تام أو استبدالها برؤىً وضعية غير معتمدة على خلفية شرعية, يتحتم على الرساليين أنّ ينطلقوا لازاحة التشويه الملامحي واعادة بناء الرؤية عبر اطروحة تطبيقية تعيد لها نصابها الواقعي.


وبما أن تشويه هذه الرؤية ليس نظرياً فالمطلوب ـ حسب التشخيص الحسيني ـ ليس إلقاء المحاضرات أو تبيين المفاهيم والتصوّرات, بل المطلوب هو فعل يهزّ ضمير الأمة ويزلزل سكون الواقع ويبعث في الاجساد الميتة ـ بفعل التضليل الدعائي للسلطة ـ الرغبة والنزعة إلى تغيير الواقع واستبدال مفاصله الشوهاء.. وذلك عن طريق تحريك الإرادة الذاتية للإنسان المسلم واعادة محوريتها في صنع الحدث وتحويل مسار التاريخ بالاتجاه المثمر لخير الإنسانية.. فالمطلوب إذاً لعلاج الواقع ـ حسب تحليل الإمام (ع) ـ هو التغيير الذي يسير وفق إيقاع خطى قافلة الإمامة والقيادة الشرعية, ليكون التغيير مقدمة نحو تحريك الانسان وارادته كي يستقبل عهد التغيير الشامل والانتصار الاخير للارادة الالهية ..


والدليل على هذا الربط أن الإمام الحسين كان يطلق على خروجه وحركته (فتحاً): (ومن تخلّف عني لم يبلغ الفتح) ، مع أنها تفضي إلى الموت والشهادة, خلافاً لفهم عبد الله بن جعفر الذي كان يراه هلاكاً!


وكانت نتائج الوعي الحسيني تتوزع على محورين أساسين ؛


وعي الذات : حيث كانت أغلب الشخصيات- فردا أو مجتمعا- لا يعرفون حقيقة ذواتهم.. فهناك في الواقع مستويان من الشخصية، الشخصية الظاهرية والشخصية الحقيقية ،الشخصية الظاهرية هي الشخصية التي تظهر على السطح في الظروف الطبيعية والأجواء الاعتيادية ،أما الشخصية الحقيقية فهي تلك الجوانب الخفية من الشخصية التي لا تظهر إلا في الظروف الاستثنائية الخاصة.. وهذا هو الخطأ التاريخي الذي وقع فيه المجتمع آنذاك فقد كانت معرفة هذا المجتمع بذاته محدودة بشخصيته الظاهرية المحبة والمرتبطة بالإمام الحسين والراغبة في الدفاع عنه والتضحية لأجله ، ولكنه كان يجهل شخصية الحقيقية والتي حقيقتها الضعف والخوف والحب المحدود للإمام الحسين .


وكانت نتيجة هذا الجهل المطبق بالذات الوقوع في أكبر خطأ تاريخي عرفه الإسلام ، وذلك عندما صاغ أهدافه وتطلعاته السياسية بإقامة الحكم الإسلامي بقيادة الإمام الحسين (ع) بناء على شخصيته الظاهرية، فوجه كثير من رجالات الكوفة ومن حولها الدعوة المؤكدة والمتكررة للإمام الحسين بالقدوم لهم ، وقدموا الوعود المغلظة والمشددة بنصرته والصمود معه حتى الشهادة ، وهو ما كان مخالفا لما حصل منهم لاحقا ، إذ أسلموا الإمام الحسين للموت وتركوه وحيدا وغريبا ومحاصرا ، يستغيث : " ألا من ناصرا ينصرنا " فلا يجد منهم إلا التخاذل .


أما المحور الثاني فهو وعي الواقع: حيث كان هناك قطاع من المسلمين ما زال يعاني خللا في تشخيص الواقع وظروفه الموضوعية ، وتحديد اتجاهاته وتقييم شخوصه . فأين هو الحق وأين هو الباطل ؟ ومن هو يزيد ومن هو الحسين ؟ وفي الحقيقة لا يمكن ادراك المغزى العميق لماتمثله النهضة الحسينية من الوعي بالقدرات التنظيمية الهائلة في رص الواقع الـشعبي ، وتأليفه في جماعة عضوية متطابقة ، الا بمعرفة الوضع السياسي ، وبشاعة الارهـاب الـذي كـانـت تـمارسه السلطة ضدهم ، ولمحات سريعة تكفي لاعطائنا مدلولات عن معاناة الشعب السياسية والامنية ، والامكانات الهائلة التي وفرتها النهضة الحسينية في إعادة بناء الكتلة الاجتماعية ووعيها بواقعها..


والنتيجة أننا كمسلمين وكبشر تواجهنا في الحياة وفي كل جيل من أجيالنا مشاكل وتحديات في مجال الحرية والكرامة والفكر والسلوك ، فقد نُبْتلى بالّذين يريدون فرض العبوديّة والذلّ والتبعية علينا في حياتنا العامّة والخاصّة، وقد تواجهنا في الحياة قضيّة العدالة في مسألة الحكم والحاكم الّذي يفرض علينا الظلم، في ما يُشَرِّع من قوانين، أو ما يتحرَّك به من مشاريع، أو ينشئه من علاقات ويقيمه من معاهدات وتحالفات.. وهذا ما يبعث فينا ضرورة تفعيل الدعوة إلى القراءة الجديدة لأحداث كربلاء حتى يمكننا أن نخرج أكثر وعياً و فهماً لحركة الجماهير وطبيعة الأدوار التي قاموا بها والتي تُشكّل لنا المرشد والموجّه في عملنا السياسي والإجتماعي والثقافي.. وهنا نحن بحاجة إلى عاملي العقل والعاطفة لصياغة هذه الخلفية، بحيث يكون العقل كالمسطرة الحازمة والدقيقة في الفصل بين معقدات الأمور، وتكون العاطفة كالشحنة المكثفة من الطاقة التي تدفع الإنسان للصمود أمام الآخرين..



السبت، 4 ديسمبر 2010

علاقة المثقف بالسلطة .. رؤى وتصورات أولية


بين المثقف والسلطة علاقة شائكة ومعقدة، وهي علاقة تاريخية، بدأت بعلاقة مع ماعُرف بظاهرة ( أصحاب القلم ) من كُتاب ومعلمين وفقهاء ووعاظ سلاطين يغشون دواوين السلاطين والخلفاء والأمراء والولاة، ويمنحون الشرعية لسلوكياتهم مهما كانت متقاطعة مع مدلولات النص الشرعي.. حتى وصول مفهوم (المثقف الاصطلاحي) إلى ساحتنا الثقافية في عصر النهضة، بحمولته الغربية، ثم بحمولته العولمية ، أو تلك التي تعتمد على اجترار مصدره اللغوي وعلاقاته المعرفية البحتة.
وربما يعود السبب في هذا إلى أن المثقف العراقي كان يشكو وما يزال من ضآلة دوره مع الجمهور وهذا يعني بالنسبة إليه أن السلطات لم تعبأ به ولم تحسب له حساباً ولم تأخذ بأفكاره ومشروعاته.
يمثّل المثقف في كل مجتمع صمّام الأمان الذي يحول دون حدوث الخرق السلبي الذي يمسُّ قضايا الوطن والمواطنة والحياة الاجتماعية ، وهذا يعني أنَّ المثقفين يحملون مسؤولية ترتقي فوق أشكال الثقافة ومضامينها.
والبديهية ، تفرض إلغاءً لكل مسببات تواجد ثنائية الصراع والتضادّ بين المثقف والسياسي ، أو بين الحاكم والمحكوم ، ومهما كانت التصنيفات والمسميات ، مادامت مزايا العلاقة المفترضة قائمة ، ليس بين خصمين لدودين ، بقدر ما هي قائمة بين قطبي رحى تدور، ضمن محور أصيل ، وثمة مادة داخلة ، ونتاج مُخرجٌ ، وجهد متواصل دون عارض ولا تنافر مقصود ، فذلك منطق العضوية والفاعلية والتكاملية في الأدوار بين السياسي والمثقف ، وساعتها فقط تصبح ( السياسة / الثقافة ، والسياسي / المثقف ) لكل الناس والمجتمع والوطن.
غير أنَّ هذا لم يجد سبيله الى العراق المعاصر ، بوصفه دولة ، منذ نشأته في عشرينيات القرن المنصرم ، لحين تدمير جميع التشخيصات النقدية السابقة ، للواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي ، ونثر منطلقاتها ومعطياتها . فهل سيتصدى المثقف العراقي للعب دوره الحقيقي في تحديد ملامح هذه السلطة ومحاربة الظواهر السلبية أم إنه سيبقى أسير الخطاب المعارض الذي تبناه معها يوما ما ؟
ويأتي هذا في وقت يعود فيه الجدل مرة أخرى لهذه العلاقة بين المثقف العربي والسلطة، بسبب التحولات السياسية المختلفة التي باتت تشهدها المنطقة العربية بشكل عام والعراق بشكل خاص، من تحديات جديدة تمر بها المنطقة العربية ومشروع الشرق أوسط الجديد الذي تطرحه أمريكا، وما يرافق ذلك من انجرار الأنظمة العربية وراء ما تطرحه العولمة.
هناك اكثر من علاقة بين المثقف والسلطة ، فكما تبدو العلاقة أحياناً بينهما انتهازية ومصلحية ، كذلك تبدو احيانا اخرى مرتبكة ومتوترة واستبدادية..
وبين هذه وذاك ثمة علاقة ثالثة تحاول أن تمرر علاقتها على حساب مشروعها الثقافي ولكنها في ذات الوقت تعطي مشروعية ثقافية لكل معاني تلك العلاقة مهما بدت غير أخلاقية وليس لها وجه إنساني.. وهو أساس الاشكالية التاريخية في مفهوم المثقف ومشروعه الثقافي، حيث يفقد أهم مقوماته في غياب هذا الوجه.
يمكن تصنيف تلك العلاقة التي تربط المثقف بالسلطة، على اعتبار انها تنتمي اجمالاً إلى ثلاث حالات:
أولها علاقة تحالف وانسجام بين المثقف والسلطة على نحو يجعل التمييز صعباً بين السياسي والمثقف..بحيث يكون بوقا لها في مقابل منح مادية او وظيفية..
وأخرى علاقة قطيعة وتباعد تجعل المثقف عيناً على السلطة، وفي بعض الأحيان نقيضاً لها..نتيجة عدم تقبلها لطروحاته النقدية وآرائه التقويمية..
وفي حالة ثالثة وهي الأخطر أو الأكثر التباساً وهي ان يكون المثقف مع السلطة وضدها في آن واحد .. يد مع قضايا المجتمع وهمومه وآلامه ويد مع السلطة، حتى ترتب على تلك الموازنة الكثير من الخلط والاستغراق في نشاط قد لا يقود في النهاية سوى إلى مزيد من الالتباسات.. التي تستغرق زمناً وجهداً مضاعفاً لفك اشتباكاتها وعلاقاتها المتداخلة..وتصبح مع الوقت مثار جدل بين مؤيد ومعارض ، الأمر الذي ينعكس سلبا على دوره الاصلاحي المنشود.
الفئة الأولى من المثقفين، أصبحت مع الوقت جزءاً من نسيج السلطة، وقد تبدو احياناً كثيرة من أدواتها.. ولا يعني هذا تشنيعاً عليها أو استنكاراً لأدوارها على الاطلاق.. إلا انها بهذه الصفة قد تفقد أهليتها الثقافية، وقد تتحول مع الوقت إلى مقاول ثقافي يمرر اجتهادات السلطة عبر أدوات ووسائل معرفية..
وبغض النظر عن مدى مصداقية هذه الفئة أو نظرتها المنحازة للإنسان أو مصالحها الخاصة، ومهما بدت هذه الفئة المثقفة منحازة إلى مبادئها ووفية لقيمها، إلا انها ستجد نفسها مع الوقت أسيرة تلك العلاقة، والتي سترتب عليها مع مرور الوقت الانجذاب إلى نسق السلطة وعلاقاتها وخصوماتها وحساباتها.
الفئة الثانية، هي تلك التي اتخذت منذ البدء أو على مراحل، الانفصال عن السلطة وجعلت بينها وبين السلطة مسافة كافية لاعتبارها في خانة المراقب أو المعارض أو الراصد.. وقد تبدو هذه الفئة وفية لمبادئها، مخلصة في الابتعاد من أجل ان تحافظ على وهجها ونقائها وطهوريتها.. لكنها أحياناً تكون مصابة بداء العزلة والاستقالة من العمل العام وأعبائه، وتفضل ان تكون في الجزء الآمن من معادلة المثقف والسلطة.

الفئة الثالثة، يبدو لي انها الأكثر تأثيراً على مشروع التطوير والإصلاح، وربما أكثر تقدماً أو تعطيلاً لمقدرة المجتمع على فرز الوجوه المثقفة ووضعها في مكانها الطبيعي، فهي فئة تحب ان تكون بعيدة بمسافة محسوبة عن السلطة.. لكنها قريبة بما يكفي.. فتكون لها وظيفة خاصة تجعل منها الفئة الضرورة والوسيط المناسب بين سلطة، تحاول بين وقت وآخر الاستحواذ على مزيد من المثقفين وتعمل جاهدة في وقت آخر على قمع الخارج على نسق الاستحواذ..

الأحد، 20 سبتمبر 2009

الفساد الإداري..
الآثار وخطة المعالجة
يعاني المجتمع الدولي من ظاهرة الفساد الكثير لما لها من ابعاد ستراتيجية في خلخلة بنية المجتمع وتداعي دعائم بنائه الاجتماعية والاقتصادية وعرقلة نموهما، وانتهاك لحقوق الانسان المشروعة في المجتمع من خلال الممارسات الخاطئة التي تمارس من قبل ممتهنيه ،كما انه يعرقل توطيد اركان الديمقراطية ويضعف تطبيقها ،لذا على الحكومات ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني تحفيز ودعم الجهود الرامية للاصلاح وكبح جماح الفساد بكل انواعه،وذلك بوضع قانون لانظمة النزاهة وتطبيقه بشكل فعال لان من علل الفساد ضعف نظام النزاهة وضعف القائمين عليه وخاصة في البلدان النامية لذا يتعين اصلاح النظام الوطني للنزاهة قبل كل شيءفي أي بلد كان ..
وتعتبر ظاهرة الفساد والفساد الإداري والمالي بصورة خاصة ظاهرة عالمية شديدة الانتشار ذات جذور عميقة تأخذ ابعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر. إذ حظيت ظاهرة الفساد في الآونة الأخيرة باهتمام الباحثين في مختلف الاختصاصات كالاقتصاد والقانون وعلم السياسة والاجتماع، كذلك تم تعريفه وفقاً لبعض المنظمات العالمية حتى أضحت ظاهرة لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها.
كما ان الفساد ينأى بطاقات الموظفين والمواطنين باتجاه الكسب السريع بدل القيام بالانشطة المنتجة ويقتل روح المنافسة في العمل والتميز في الاداء والطموح للافضل بالطرق العلمية الصحيحة ، ويحبط كل الخطط الرامية لتخفيف حدة الفقر وقمع محاولات النهوض بالواقع ...
جذور الفساد ممتدة في اعماق التاريخ وليست وليدة الحاضر ويعاني المجتمع العراقي في الوقت الحاضر من انتشار الفساد في بعض الدوائر العامة والحكومية وخاصة التي لها مساس مباشر بتوفير الخدمات والمصالح الرئيسية للمواطنين ..
إن ظاهرة الفساد الإداري ظاهرة طبيعية في المجتمعات الرأسمالية حيث تختلف درجات هذا الفساد إلى اختلاف تطور مؤسسة الدولة. إما في بلدان العالم الثالث فإن لفساد مؤسسات الدولة وتدني مستويات الرفاه الاجتماعي تصل إلى أقصى مدياتها، وهذا ناتج عن درجة التخلف وازدياد معدلات البطالة. فالفساد قد ينتشر في البنى التحتية في الدولة والمجتمع، وفي هذه الحالة يتسع وينتشر في الجهاز الوظيفي ونمط العلاقات المجتمعية فيبطيء من حركة تطور المجتمع ويقيد حوافز التقدم الاقتصادي.
إن الآثار المدمرة والنتائج السلبية لتفشي هذه الظاهرة المقيتة تطال كل مقومات الحياة لعموم أبناء الشعب، فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وبالتالي تشكل منظومة تخريب وإفساد تسبب مزيداً من التأخير في عملية البناء والتقدم ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فقط، بل في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي، ناهيك عن مؤسسات ودوائر الخدمات العامة ذات العلاقة المباشرة واليومية مع حياة الناس.
يضاف إلى تلك العوامل والأسباب السياسية المتعلقة بظاهرة الفساد عوامل أخرى اقتصادية منها: غياب الفعالية الاقتصادية في الدولة ذلك أن اغلب العمليات الاقتصادية هي عبارة عن صفقات تجارية مشبوهة أو ناتجة عن عمليات سمسرة يحتل الفساد المالي فيها حيزاً واسعاً، وهو ما سينعكس بصورة أو بأخرى على مستوى وبنية الاقتصاد الوطني، إذ ستؤثر هذه العمليات على مدى سير عملية تنفيذ المشاريع وبالتالي على عملية الإنتاج. من جهة أخرى، أن مستوى الجهل والتخلف والبطالة يشكل عامل حسم في تفشي ظاهرة الفساد ذلك أن قلة الوعي الحضاري ظلت ملازمة أو ملتزمة بالرشوة. كما أن ضعف الأجور والرواتب تتناسب طردياً مع ازدياد ظاهرة الفساد.
ويتجلى الاثر السلبي في:
1.ضعف الثقة بين الجمهور والسلطة مما يثير السخط وعدم الرضا والنقد المباشر اللاذع والمتكرر الذي يفقد السلطة شرعيتها في الاخير .
2.اثراء قلة على حساب الكثرة مما يزيد من اتساع الفجوة بين الفريقين وعدم العدالة والتميز الطبقي داخل المجتمع .
3.القلق وعدم الاستقرار في العمل وغياب الامان في الفرص التي يحصل عليها العامل .
4.ظهور فئة من المتسلقين وكأنهم الصفوة التي يعتمد عليها في العمل في حين انها لامبرر لوجودها.
ومن خلال هذه العوامل والأسباب الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لظاهرة الفساد، يمكن رصد بعض الآثار الاقتصادية المتعلقة بتلك الظاهرة عموماً منها:-
1. يساهم الفساد في تدني كفاءة الاستثمار العام وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحتية العامة وذلك بسبب الرشاوى التي تحد من الموارد المخصصة للاستثمار وتسيئ توجيهها أو تزيد من كلفتها.
2. للفساد أثر مباشر في حجم ونوعية موارد الاستثمار الأجنبي، ففي الوقت الذي تسعى فيه البلدان النامية إلى استقطاب موارد الاستثمار الأجنبي لما تنطوي عليه هذه الاستثمارات من إمكانات نقل المهارات والتكنلوجيا، فقد أثبتت الدراسات أن الفساد يضعف هذه التدفقات الاستثمارية وقد يعطلها مما يمكن أن يسهم في تدني إنتاجية الضرائب وبالتالي تراجع مؤشرات التنمية البشرية خاصةً فيما يتعلق بمؤشرات التعليم والصحة.
3. يرتبط الفساد بتردي حالة توزيع الدخل والثروة، من خلال استغلال أصحاب النفوذ لمواقعهم المميزة في المجتمع وفي النظام السياسي، مما يتيح لهم الاستئثار بالجانب الأكبر من المنافع الاقتصادية التي يقدمها النظام بالإضافة إلى قدرتهم على مراكمة الأصول بصفة مستمرة مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين هذه النخبة وبقية أفراد المجتمع.
مما تقدم نلاحظ ان الفساد الاداري مستشر في كل بلدان العالم ولكن بنسب متفاوتة حسب قوة الحكومات التي تسوسها وحسب ثقافة الشعوب وقدرتها على تطبيق القوانين وتفعيلها في العمل الاداري والايمان والتبعية للوطن والابتعاد عن الانتماءات الضيقة الاسرية او العشائرية.
كما ان الحالة الاقتصادية للبلد لها الاثر الاكبر فكلما غاب الفقر عن بلد غاب الفساد لانه المحرك الاقوى والاشد لكل انواع الفساد ونحن نلاحظ وجود الفساد الاقتصادي في القطاعين العام والخاص ولكن وجوده في القطاع العام بشكل اوسع لضعف الرقابة والمساءلة المستمرة والجادة وان الحاجة مازالت ماسّة للمزيد من الدراسات والبحوث من اجل التقصي عن اسبابه الفعلية والتي هي اكثر من غيرها تعمل على تنميته وتغذيته ، والحد منها . فالبعض من الأسباب داخلي يمكن السيطرة عليه وبعضها خارجي يصعب السيطرة عليه .
لذا يجب تظافر الجهود بين الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني تلك الاركان الثلاثة للدولة للحد من الفساد وتضييق فجواته في المجتمع وبشكل حاسم ومدروس ومنظم بوضع الخطط والقوانين والانظمة وبالتعاون مع المجتمع الدولي و الاقليمي والمنظمات الدولية فبمجموع هذه الجهود يمكن السيطرة عليه ومكافحته واصلاح المؤسسات خدمة للصالح العام.
ويجمل الاستاذ ياسر الوائلي خطة لمعالجة حالة الفساد بمايلي:
1. تبسيط وسائل العمل، وتحديد مهل انجاز المعاملات يعبر عن أهم عامل في طريق مكافحة الفساد لأنه يضمن أمرين أساسيين يعول عليهما المواطن الأهمية الكبرى هما:
أ. انجاز معاملاته بأقل نفقة ممكنة.
ب.انجاز معاملاته بأسرع وبأقرب مكان ممكن وبالتالي بأسرع وقت ممكن.
2. اجراء تنقلات دورية بين الموظفين (كلما أمكن ذلك) يمكن أن يسهل ويعمل على تخفيض حالات الرشوة السائدة.
3. تشكيل لجان خاصة لوضع نظام متكامل لأداء الموظفين تقوم بإجراء تفتيش دوري بين الدوائر والوزارات واعداد التقارير الخاصة بذلك.
4. وضع مصنف يتضمن تقسيم الوظائف العامة على وفق طبيعة مهامها إلى فئات ورتب تتطلب من شاغليها مؤهلات ومعارف من مستوى واحد (أي اعتماد معيار الكفاءة والخبرة).
5. تحديد سلسلة رواتب لكل فئة من الفئات الواردة في المصنف بعد اجراء دراسة مقارنة للوظائف المتشابهة في القطاعين العام والخاص.
6. انشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الإشراف ومتابعة الممارسات التي تتم من قبل الوزراء والموظفين العاملين في كل وزارة ومؤسسة.
7. تفعيل إدارة الخدمات بمعنى أن يطال جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات أي أن تعطى إدارات الخدمات ذات العلاقة بالجمهور الأولوية الأولى. والتفعيل هنا يقتضي أن يتناول أربع قضايا أساسية هي:-
أ. هيكلية هذه الإدارات وبنيتها وتحديد مهامها وصلاحياتها بحيث يُعاد تكوينها على أسس علمية ومسلمات معروفة أبرزها خلو هذه التنظيمات والهيكليات من الازدواجيات وتنازع الصلاحيات إيجاباً كان أم سلباً وبالتالي ضياع المسؤولية وهدر النفقات وسوء تحديد المهام وتقادم شروط التعيين.
ب. العنصر البشري في هذه الإدارات بحيث يُختار الأجدر والأنسب على قاعدة تكافؤ الفرص والمؤهلات والتنافس والعمل على إيجاد حلول لمعالجة ظاهرة البطالة.
ج. أساليب العمل، بحيث يعاد النظر في هذه الأساليب لجهة تبسيطها وجعلها أكثر مرونة وتحديد أصول انجاز المعاملات.
د. وسائل العمل من أدوات وتجهيزات وآلات ومعدات تعتبر من لزوميات أساليب العمل.
8.العمل على إيجاد السبل اللازمة للخروج من نفق الفساد والإرهاب دون الوقوع في حلقة مفرغة ممثلة في البدء بإصلاح الدمار الهائل في المنظومة القيمية، أنماط التفكير وما يرافقها من أمراض كالانتهازية والسلبية ولغة التحاور المشوهة مع الذات والآخر.
9. العمل بمبدأ الشفافية في جميع مرافق ومؤسسات الدولة.
10. إشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية- الحضارية بين عموم المواطنين .
وخلاصة القول: إن مكافحة الفساد الإداري لا يمكن أن تتحقق من خلال حلول جزئية، بل ينبغي أن تكون شاملة تتناول جميع مرتكزات الإدارة من بنيتها وهيكليتها إلى العنصر البشري العامل فيها إلى أساليب العمل السائدة فيها.