الأحد، 20 سبتمبر 2009

الفساد الإداري..
الآثار وخطة المعالجة
يعاني المجتمع الدولي من ظاهرة الفساد الكثير لما لها من ابعاد ستراتيجية في خلخلة بنية المجتمع وتداعي دعائم بنائه الاجتماعية والاقتصادية وعرقلة نموهما، وانتهاك لحقوق الانسان المشروعة في المجتمع من خلال الممارسات الخاطئة التي تمارس من قبل ممتهنيه ،كما انه يعرقل توطيد اركان الديمقراطية ويضعف تطبيقها ،لذا على الحكومات ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني تحفيز ودعم الجهود الرامية للاصلاح وكبح جماح الفساد بكل انواعه،وذلك بوضع قانون لانظمة النزاهة وتطبيقه بشكل فعال لان من علل الفساد ضعف نظام النزاهة وضعف القائمين عليه وخاصة في البلدان النامية لذا يتعين اصلاح النظام الوطني للنزاهة قبل كل شيءفي أي بلد كان ..
وتعتبر ظاهرة الفساد والفساد الإداري والمالي بصورة خاصة ظاهرة عالمية شديدة الانتشار ذات جذور عميقة تأخذ ابعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر. إذ حظيت ظاهرة الفساد في الآونة الأخيرة باهتمام الباحثين في مختلف الاختصاصات كالاقتصاد والقانون وعلم السياسة والاجتماع، كذلك تم تعريفه وفقاً لبعض المنظمات العالمية حتى أضحت ظاهرة لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها.
كما ان الفساد ينأى بطاقات الموظفين والمواطنين باتجاه الكسب السريع بدل القيام بالانشطة المنتجة ويقتل روح المنافسة في العمل والتميز في الاداء والطموح للافضل بالطرق العلمية الصحيحة ، ويحبط كل الخطط الرامية لتخفيف حدة الفقر وقمع محاولات النهوض بالواقع ...
جذور الفساد ممتدة في اعماق التاريخ وليست وليدة الحاضر ويعاني المجتمع العراقي في الوقت الحاضر من انتشار الفساد في بعض الدوائر العامة والحكومية وخاصة التي لها مساس مباشر بتوفير الخدمات والمصالح الرئيسية للمواطنين ..
إن ظاهرة الفساد الإداري ظاهرة طبيعية في المجتمعات الرأسمالية حيث تختلف درجات هذا الفساد إلى اختلاف تطور مؤسسة الدولة. إما في بلدان العالم الثالث فإن لفساد مؤسسات الدولة وتدني مستويات الرفاه الاجتماعي تصل إلى أقصى مدياتها، وهذا ناتج عن درجة التخلف وازدياد معدلات البطالة. فالفساد قد ينتشر في البنى التحتية في الدولة والمجتمع، وفي هذه الحالة يتسع وينتشر في الجهاز الوظيفي ونمط العلاقات المجتمعية فيبطيء من حركة تطور المجتمع ويقيد حوافز التقدم الاقتصادي.
إن الآثار المدمرة والنتائج السلبية لتفشي هذه الظاهرة المقيتة تطال كل مقومات الحياة لعموم أبناء الشعب، فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وبالتالي تشكل منظومة تخريب وإفساد تسبب مزيداً من التأخير في عملية البناء والتقدم ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فقط، بل في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي، ناهيك عن مؤسسات ودوائر الخدمات العامة ذات العلاقة المباشرة واليومية مع حياة الناس.
يضاف إلى تلك العوامل والأسباب السياسية المتعلقة بظاهرة الفساد عوامل أخرى اقتصادية منها: غياب الفعالية الاقتصادية في الدولة ذلك أن اغلب العمليات الاقتصادية هي عبارة عن صفقات تجارية مشبوهة أو ناتجة عن عمليات سمسرة يحتل الفساد المالي فيها حيزاً واسعاً، وهو ما سينعكس بصورة أو بأخرى على مستوى وبنية الاقتصاد الوطني، إذ ستؤثر هذه العمليات على مدى سير عملية تنفيذ المشاريع وبالتالي على عملية الإنتاج. من جهة أخرى، أن مستوى الجهل والتخلف والبطالة يشكل عامل حسم في تفشي ظاهرة الفساد ذلك أن قلة الوعي الحضاري ظلت ملازمة أو ملتزمة بالرشوة. كما أن ضعف الأجور والرواتب تتناسب طردياً مع ازدياد ظاهرة الفساد.
ويتجلى الاثر السلبي في:
1.ضعف الثقة بين الجمهور والسلطة مما يثير السخط وعدم الرضا والنقد المباشر اللاذع والمتكرر الذي يفقد السلطة شرعيتها في الاخير .
2.اثراء قلة على حساب الكثرة مما يزيد من اتساع الفجوة بين الفريقين وعدم العدالة والتميز الطبقي داخل المجتمع .
3.القلق وعدم الاستقرار في العمل وغياب الامان في الفرص التي يحصل عليها العامل .
4.ظهور فئة من المتسلقين وكأنهم الصفوة التي يعتمد عليها في العمل في حين انها لامبرر لوجودها.
ومن خلال هذه العوامل والأسباب الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لظاهرة الفساد، يمكن رصد بعض الآثار الاقتصادية المتعلقة بتلك الظاهرة عموماً منها:-
1. يساهم الفساد في تدني كفاءة الاستثمار العام وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحتية العامة وذلك بسبب الرشاوى التي تحد من الموارد المخصصة للاستثمار وتسيئ توجيهها أو تزيد من كلفتها.
2. للفساد أثر مباشر في حجم ونوعية موارد الاستثمار الأجنبي، ففي الوقت الذي تسعى فيه البلدان النامية إلى استقطاب موارد الاستثمار الأجنبي لما تنطوي عليه هذه الاستثمارات من إمكانات نقل المهارات والتكنلوجيا، فقد أثبتت الدراسات أن الفساد يضعف هذه التدفقات الاستثمارية وقد يعطلها مما يمكن أن يسهم في تدني إنتاجية الضرائب وبالتالي تراجع مؤشرات التنمية البشرية خاصةً فيما يتعلق بمؤشرات التعليم والصحة.
3. يرتبط الفساد بتردي حالة توزيع الدخل والثروة، من خلال استغلال أصحاب النفوذ لمواقعهم المميزة في المجتمع وفي النظام السياسي، مما يتيح لهم الاستئثار بالجانب الأكبر من المنافع الاقتصادية التي يقدمها النظام بالإضافة إلى قدرتهم على مراكمة الأصول بصفة مستمرة مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين هذه النخبة وبقية أفراد المجتمع.
مما تقدم نلاحظ ان الفساد الاداري مستشر في كل بلدان العالم ولكن بنسب متفاوتة حسب قوة الحكومات التي تسوسها وحسب ثقافة الشعوب وقدرتها على تطبيق القوانين وتفعيلها في العمل الاداري والايمان والتبعية للوطن والابتعاد عن الانتماءات الضيقة الاسرية او العشائرية.
كما ان الحالة الاقتصادية للبلد لها الاثر الاكبر فكلما غاب الفقر عن بلد غاب الفساد لانه المحرك الاقوى والاشد لكل انواع الفساد ونحن نلاحظ وجود الفساد الاقتصادي في القطاعين العام والخاص ولكن وجوده في القطاع العام بشكل اوسع لضعف الرقابة والمساءلة المستمرة والجادة وان الحاجة مازالت ماسّة للمزيد من الدراسات والبحوث من اجل التقصي عن اسبابه الفعلية والتي هي اكثر من غيرها تعمل على تنميته وتغذيته ، والحد منها . فالبعض من الأسباب داخلي يمكن السيطرة عليه وبعضها خارجي يصعب السيطرة عليه .
لذا يجب تظافر الجهود بين الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني تلك الاركان الثلاثة للدولة للحد من الفساد وتضييق فجواته في المجتمع وبشكل حاسم ومدروس ومنظم بوضع الخطط والقوانين والانظمة وبالتعاون مع المجتمع الدولي و الاقليمي والمنظمات الدولية فبمجموع هذه الجهود يمكن السيطرة عليه ومكافحته واصلاح المؤسسات خدمة للصالح العام.
ويجمل الاستاذ ياسر الوائلي خطة لمعالجة حالة الفساد بمايلي:
1. تبسيط وسائل العمل، وتحديد مهل انجاز المعاملات يعبر عن أهم عامل في طريق مكافحة الفساد لأنه يضمن أمرين أساسيين يعول عليهما المواطن الأهمية الكبرى هما:
أ. انجاز معاملاته بأقل نفقة ممكنة.
ب.انجاز معاملاته بأسرع وبأقرب مكان ممكن وبالتالي بأسرع وقت ممكن.
2. اجراء تنقلات دورية بين الموظفين (كلما أمكن ذلك) يمكن أن يسهل ويعمل على تخفيض حالات الرشوة السائدة.
3. تشكيل لجان خاصة لوضع نظام متكامل لأداء الموظفين تقوم بإجراء تفتيش دوري بين الدوائر والوزارات واعداد التقارير الخاصة بذلك.
4. وضع مصنف يتضمن تقسيم الوظائف العامة على وفق طبيعة مهامها إلى فئات ورتب تتطلب من شاغليها مؤهلات ومعارف من مستوى واحد (أي اعتماد معيار الكفاءة والخبرة).
5. تحديد سلسلة رواتب لكل فئة من الفئات الواردة في المصنف بعد اجراء دراسة مقارنة للوظائف المتشابهة في القطاعين العام والخاص.
6. انشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الإشراف ومتابعة الممارسات التي تتم من قبل الوزراء والموظفين العاملين في كل وزارة ومؤسسة.
7. تفعيل إدارة الخدمات بمعنى أن يطال جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات أي أن تعطى إدارات الخدمات ذات العلاقة بالجمهور الأولوية الأولى. والتفعيل هنا يقتضي أن يتناول أربع قضايا أساسية هي:-
أ. هيكلية هذه الإدارات وبنيتها وتحديد مهامها وصلاحياتها بحيث يُعاد تكوينها على أسس علمية ومسلمات معروفة أبرزها خلو هذه التنظيمات والهيكليات من الازدواجيات وتنازع الصلاحيات إيجاباً كان أم سلباً وبالتالي ضياع المسؤولية وهدر النفقات وسوء تحديد المهام وتقادم شروط التعيين.
ب. العنصر البشري في هذه الإدارات بحيث يُختار الأجدر والأنسب على قاعدة تكافؤ الفرص والمؤهلات والتنافس والعمل على إيجاد حلول لمعالجة ظاهرة البطالة.
ج. أساليب العمل، بحيث يعاد النظر في هذه الأساليب لجهة تبسيطها وجعلها أكثر مرونة وتحديد أصول انجاز المعاملات.
د. وسائل العمل من أدوات وتجهيزات وآلات ومعدات تعتبر من لزوميات أساليب العمل.
8.العمل على إيجاد السبل اللازمة للخروج من نفق الفساد والإرهاب دون الوقوع في حلقة مفرغة ممثلة في البدء بإصلاح الدمار الهائل في المنظومة القيمية، أنماط التفكير وما يرافقها من أمراض كالانتهازية والسلبية ولغة التحاور المشوهة مع الذات والآخر.
9. العمل بمبدأ الشفافية في جميع مرافق ومؤسسات الدولة.
10. إشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية- الحضارية بين عموم المواطنين .
وخلاصة القول: إن مكافحة الفساد الإداري لا يمكن أن تتحقق من خلال حلول جزئية، بل ينبغي أن تكون شاملة تتناول جميع مرتكزات الإدارة من بنيتها وهيكليتها إلى العنصر البشري العامل فيها إلى أساليب العمل السائدة فيها.

الثلاثاء، 30 يونيو 2009

بحث : واقع الإعلام العراقي بعد التغيير السياسي


هدف البحث
لكل رسالة إعلامية هدف خاص يراد تحقيقه من خلال منهج مرسوم اذ تلتقي أهداف هذه الرسالة في محصلة اجتماعية وطنية عامة ، وذلك بايجاد بيئة تلق تسعى لتحقيق الانسجام بين الأهداف ، في سياق توجه فكري وطني معتدل يحقق الشخصية الاجتماعية الإنسانية المتكاملة عند متلقي الرسالة .
وأما مدى التأثير في تحقيق الهدف المنشود فهو منوط بمقدار استجابة المتلقي نفسه ، وبمقدار تأثير المرسل بالمتلقي حتى يجعله متكيفاً أكثر مع الاستقبال.. فإن كان اعلاما وطنيا هادفا معتدلا في طرحه خلق لنا متلقيا فاعلا مؤثرا في البناء ومحاربة كل الآفات التي تهدد أمن المجتمع وتعايشه السلمي ، وان كان اعلاما متطرفا أو سطحيا خلق لنا فردا هامشيا غير فاعل في البناء الوطني، ان لم يكن متطرفا..
وقد مضت سيرة الحياة الإنسانية ضمن سلسلة علاقات متعددة تقوم على اتصال الإنسان بالإنسان أفراداً وجماعات وأمماً، حتى أمكن التنظير لهذه الفطرة وكشف فلسفتها المتوزعة على نواحي الحياة العامة ، ضمن سلسلة من العلوم والمعارف كان منها الإعلام .
إنّ طرح هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات، وفي العراق بالتحديد، يكتسب أهمية خاصة لأنّه أصبح يثير إشكاليات جديدة تتجاوز ما كان مطروحا في السابق من إشكاليات.
وسنسعى من خلال هذه الدراسة الى تقييم أداء الاعلام العراقي بعد التغيير الذي حصل في العراق عام 2003م ، وتحديد الإشكاليات الجديدة التي تطرحها العلاقة بين الإعلام والواقع العراقي الجديد ، وصولاً الى دراسة سبل حلها واحلال البديل الموضوعي المرتكز على الوطنية وروح الاعتدال..
ولهذا ايضا يحاول هذا البحث ان يعالج موضوعة الاعلام العراقي الراهن ويكشف عن اثره ودوره المحوري في صنع الانسان وتحريك طاقاته الايحائية والابداعية،من خلال اعادة رسم الهياكل والادوار والاهداف للاعلام الهادف الوطني المعتدل ، وبيان قدرته على تحريك المتلقي ، باتجاه بنائي واسع الافق..
تأثير الاختلالات العربية على الاعلام العراقي
نستطيع أن نقول إن العالم العربي والعالم الإسلامي اصبحا منذ سبتمبر 2001 في قلب السياسة العالمية والاستراتيجية العالمية، بمعنى أنه قبل ذلك كان العالم العربي والشرق الأوسط موجودا ومهما ومؤثرا، ولكن لم يكن القضية المتصدرة للقضايا العالمية فقد كانت القضية الاستراتيجية الكبرى على المستوى العالمي في ذلك الوقت هي الصراع بين الشرق والغرب (الاتحاد السوفياتى والولايات المتحدة الأمريكية) .
وكان قلب هذا الصراع موجودا في أماكن معينة من أوروبا الشرقية وبرلين، إنما هذا العالم القديم تغير تماماً، وحدثت ثورة حقيقية في نهاية الثمانينات مع سقوط الاتحاد السوفياتي ومع التدهور الذي حدث في الكتلة الاشتراكية ثم بروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة واحدة في عالم اليوم ابتداءً من أوائل التسعينات، والتي واكبتها جهود أكاديمية وعلمية وثقافية.
فالتطورات التي تحدث هنا لها علاقة مباشرة بالاستراتيجية الكونية كلها، فليس مصادفة في هذا السياق أنْ بدأت تظهر قنوات عربية تليفزيونية عابرة للقارات لأول مرّة في التاريخ وبدأت تأخذ مكانها للتنافس مع القنوات الفضائية الكبرى، وبدأ المواطن في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم كله يشاهد قنوات عربية وهذا لم يحدث من قبل، بل كان الإعلام الموجود في المنطقة خارج سياق المشاهدات العادية للعالم وأصبحت بعض القنوات العربية في مقدمة القنوات التي تقدم أخبارا ويُنظر إليها ، وأصبحت قنوات عالمية نتيجة التطورات السياسية والاستراتيجية التي ذكرت من قبل.
وقد شهدت البيئة الإعلامية العربية والاسلامية في السنوات القليلة الماضية تغيرات نوعية ، نتيجة ما فرضته متطلبات العمل الإعلامي في ظل فضاء مفتوح يزخر بفيض هائل من الأخبار والبيانات والمعلومات في كل لحظة ومن كل بقعة في العالم دون أي اعتبار للحواجز الجغرافية والحدود الوطنية.
لقد أسهمت ثورة الاتصال والمعلومات في إحداث تحول على المشهد الإعلامي العربي في العقد الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين ، فقد استجاب الإعلام العربي لتأثير هذه الثورة الكاسح، واستطاع أن يطور قابلياته للاستفادة من بعض فرصها، فنشأ ما يسمى بإعلام ( الموجة الجديدة ) المتمثل في القنوات الفضائية العربية والصحف والمجلات الإلكترونية والمواقع الإخبارية على شبكة الإنترنت.
ومن هنا فإن الوطن العربي قد انكمش جغرافيا وعمليا إزاء زحف الثورة الإعلامية، أي أنه لم يتجاوب مع الدلالات الفكرية والاجتماعية لتوسع مساحة الفعل الإعلامي، في الوقت الذي يبدو فيه متجاوبا مع حجم الاستثمارات المالية في هذا المجال، إذ يشهد ولادة محطة فضائية جديدة كل أسبوع تقريبا.
ومن جهة أخرى فإن التطور الكمي والوعي الهائل والتسارع في ميدان الاتصال قد ألقى بظلاله على الأداء الإعلامي العربي، فذهبت بعض وسائل الاتصال العربية -وبشكل خاص القنوات الفضائية- إلى اعتماد البرامج الترفيهية التي تقلد البرامج الأميركية والأوروبية أو تستنسخها.
وعلى مستوى الفاعلية الرسمية والشعبية في الوطن العربي، فإن الإعلام العربي ما زال منقسما بين خطابين منعزلين ومتباعدين: خطاب حكومي رسمي نمطي مثقل بهاجس الخوف من الرأي الآخر، وخطاب إعلامي معارض متواضع من حيث الإمكانات المادية والتقنية، ولكنه متخم بالضجيج من دون أن يعرض برنامجا بديلا أو يكسب تأثير وقوة جماعات الضغط لصالحه.
ولم يكن العراق بمنأى عن تأثير هذه المعادلات العالمية خصوصا بعد سقوط نظامه القمعي ودخول القوات متعددة الجنسيات ومارافق ذلك من انفتاح على السوق العالمية ومنتجاتها التقنية وهوامش الحرية المتعددة ثقافيا واعلاميا، وما صاحب هذا الانفتاح من بعض القراءات الثقافية والاجتماعية الخاطئة وسلوكيات اعلامية مغلوطة . من هنا برزت الحاجة إلى تسليط الضوء عليها وتقديم مقاربات لمعالجتها وتجاوزمعوقاتها وعلى رأسها التطرف والفوضى في الخطاب الصحفي والنتاج الاعلامي ، تمهيدا لحلها في بلد انعتق للتو من ربقة الاستبداد والارهاب وبدأ ببناء مؤسساته سلمياً ..
ومما لا شك فيه أن زخم النشاط الإعلامي في العراق ازداد خلال السنوات الست الأخيرة ، بعد التغيير السياسي الحاصل فيه عام 2003 ، كما أن مكوناته اتسعت على نحو غير مسبوق، فبرزت فضائيات عراقية وسعت هامش الحرية والتعدد، وامتد نطاق تأثيرها إلى ما وراء الحدود الوطنية، وقدمت خطابا بديلا عن الخطاب الإعلامي الرسمي .
ولما كان العراق جزءاً لا يتجزَّأ عن العالم العربي والإسلامي ولايختلف كثيرا في تأثره عن غيره من الدول والمجتمعات التي تعرض لما يبثّ من برامج إعلامية مختلفة؛ فقد كان طبيعياً أن يتأثّر كثيرا بمضامين وأهداف الرسائل الإعلامية الصادرة من أجهزة الإعلام المختلفة، ولا سيما بعد سيطرة الشبكات الإذاعية والأقمار الصناعية ، وحيث لم يكن هنالك بديل عنها تقدّمه الدول والمؤسسات العربية والإسلامية، والتي كانت، بل وما زالت، لا تمتلك تقنيات الاتصال الحديثة أو التنظير اوتأصيل الحالة الإعلامية، فتأخر الاعلام عندنا بالقياس للدول المتقدمة وكرّس في ذهنية الجيل كثيرا من رواسب التطرف والانتماءات الفئوية والحزبية والطائفية.
تقرير إشكالية الاعلام العراقي
من المؤكد أن العهد الإعلامي الجديد لا تمكن مقارنته بإعلام الحقبة البائدة . ففي تلك الحقبة لا يمكن القول إنه كان يشكل ظاهرة تستحق التأمل أو الدراسة، فقد كان سلطوياً بامتياز، أي انه كان مكرسا للسلطة الحاكمة بكل خطوطه، وفي السنوات الأخيرة أصبح مكرساً لشخص واحد وعائلته المالكة.
كان إعلاماً موجهاً، ابتداء من انتقاء الكلمات، والمواضيع، وانتهاء بالكتاب والصحافيين الذين يرشّحون للكتابة في المواضيع الحساسة بالخصوص.
وهذا أيضاً تجلى في عدد المنابر، اذ لم يكن هناك سوى ثلاث أو أربع صحف، ومحطتي إذاعة وثلاث محطات تلفزيونية، احداها مملوكة لإبن الرئيس عدي صدام حسين، مع الأخذ بعين الإعتبار حقيقة أن كافة المنابر تلك لا تختلف كثيراً في مضمون الرسالة الإعلامية أو التحليل، أو حتى أحياناً أسماء الكتاب، مما جعل ذلك الإعلام يصنف في خانة الإعلام الموجه، المراقب، والخالي من الروح الإبداعية، سواء على صعيد الفكر السياسي أو على صعيد الأشكال الفنية التعبيرية في البرامج والمقالات والآراء والتحليلات والصورة وآليات العمل.
كل ذلك لم يعد موجوداً في إعلام العراق اليوم، على العكس. إنه يشكو من كثافة التنوع والفوضى المهيمنة عليه، وتباين الأساليب والآراء الفكرية، ومهنية أو عدم مهنية الصحف والفضائيات والإذاعات. هناك اليوم اكثر من عشرين فضائية، وعشرات الصحف اليومية والإذاعات، وعشرات المجلات الثقافية والفكرية في بغداد وحدها، عدا الوسائل الإعلامية في المحافظات.
ما يلفت النظر اليوم في الإعلام العراقي، مقارنة مع الإعلام العربي عموماً، وجود حقيقتين:
الأولى: هي عدم وجود وزارة إعلام عراقية، وبذلك تخلصنا من عبء مؤسسة بيروقراطية، متوارثة، ذات ماض سلطوي.
والثانية: غياب الرقابة الحكومية، المسلطة على رؤوس المفكرين وأحرار الإبداع والصحافيين، وهذا ما أضفى صبغة من التميز على الحقبة الإعلامية الحاضرة، وهي تعكس، بشكل مباشر، واقع ما يمر به العراق حالياً، لا على الصعيد الإعلامي فقط ولكن على كافة الأصعدة.
لكن غياب وزارة إعلام ورقابة على المطبوعات، لا يعني بالمحصلة أن هذا الإعلام صار حراً بشكل كامل ، فثمة خطوط حمر غير مرئية، يستشعرها معظم الكتاب والصحافيين ورؤساء التحرير في تلك الصحف والإذاعات والفضائيات.
وهي من زاوية معينة تمتلك جانباً ايجابياً، ومن زاوية أخرى تمتلك جانباً سلبياً، على اعتبار ان غياب أي فحص لمستوى الخطاب يؤدي إلى الفجاجة والسطحية والإبتذال غالبا.
وتتوزع المنابر الإعلامية على أنواع متعددة تبعاً لجهاتها الممولة لها ، ولحد الآن لم يصبح هناك قانون يحدد الشروط المتوفرة لفتح الوسيلة الإعلامية، مع أن الدستور حدد خطوطا عامة لتنظيم الإعلام.
وعلى صعيد آخر جاء العراق في طليعة الدول التي قدمت ضحايا في حقل الصحافة والإعلام، اذ قتل او اختطف مئات الصحافيين والاعلاميين العراقيين والأجانب، خلال السنوات الست السابقة، بعضهم قتل او اختطف بسبب كتاباته، والبعض بسبب الهوية المذهبية.
وهذا أحد جوانب المعركة الدائرة على المستويات كافة في ساحة العراق، مع التنويه إلى أن الأداء العراقي، الحكومي والشعبي والمؤسساتي، ونتيجة لضعف المهنية، والتشرذم الموجود، ومحلية الأفكار والطروحات، لم يستطع ايصال رسالته إلى الجمهور العربي، ولا الوقوف بندية تجاه الإعلام التخريبي الموجه .
والملاحظ أن الهبّة الإعلامية التي بزغت بعد سقوط النظام، مرت بتحولات عديدة، وهذا أمر بديهي ضمن بكورة الحرية الإعلامية التي يعيشها العراق. ففي البدء كان المهم هو تأسيس الوسيلة الإعلامية لكي تنطق بإسم هذه الجهة او تلك ، وكان التأسيس عادة ما يترافق مع تدني المستوى، والخطاب المباشر ، وعدم تقدير وقع الخطاب على القوى السياسية الأخرى، أو على الجماهير.
لكن المشاكل التي يسببها هكذا نمط من الإعلام سرعان ما بدأت تظهر إلى السطح، وجعلت القائمين على وسائل الإعلام تلك يستفيدون من الأخطاء وردات الفعل تلك، فيعدّلون او يلطّفون من المباشرة، ليصبح الخطاب اكثر دبلوماسية وأكثر دقة.
أثر التطرف في تكريس اشكالية الخطاب
وكان للتطرف اثر بالغ على الخطاب الاعلامي العراقي فالمتتبع للأحداث في العراق يرى بجلاء أن بعض خطابات تلك الفترة سواء حزبية أو مناطقية قد لبست لباس الوطنية او الدين وأخذت تطور اتجاها سياسيا يستند إلى هذه المتبنيات و جعلت من ذلك مسوغا لها إلى المتلقين .
وقد القى التطرف بظلاله على الشأن الاعلامي العراقي حينما جاء مساوقا لبعض المتبنيات الحزبية و السياسية فطرحها على أنها من اللوازم الدينية او الوطنية التي لايمكن إنكارها فزاد الأمر تعقيدا ، وقد خلق نوعا من الطائفية البغيضة التي جاءت متدرعة بالمقدس تستوطن العقول وتوغل من إنتاج أنساق مختلفة من التحزب السياسي والطائفي والمذهبي الذي الحق ويلحق افدح الأذى بوحدة التاريخ والمصير العراقي.
وكان من خلال شدة وعمق اثر الاعلام في صيغته المتطرفة نرى ونسمع بشخص يلقي بنفسه إلى التهلكة أو أن شخص يدخل على شخص فيقتله أو أن مجموعة تهدد بالتهجير أشخاصا آخرين او ان يفجّر احد نفسه في سوق شعبي ، لأنهم عرضت امامهم فتاوى من يفتي بذالك وإنهم يدخلون الجنة لممارستهم افضل الاعمال !! ..
وكنا نرى ذلك على مسرح حياتنا كل ساعة وكل يوم، ويقوم الاعلام بعرضه والترويج له كرسالة اعلامية هادفة!..
وكانت التغطية الإعلامية المتواصلة للأنشطة الإرهابية وعرض مواقف أصحابها قد عزّز الاستخدام المتداول لأساليب العنف والاغتيال، وسهّل على الحركات المتطرفة تمرير خطاباتها وتنظيم شبكاتها ودعم وسائلها مستفيدة في ذلك من قيم الغرب في حرية الرأي..
اشكالية التمويل والدور الحكومي
ان الاشكالية المذكورة أسست لإعلام يجري وراء رغبات الجمهور وان كانت متدنية احيانا، اي ان الدور ينعكس تماما في هذه اللعبة، حيث لم يعد الاعلام معلما بل اصبح هو الطالب في مدرسة الشارع ونزواته ومزاجه.
وبتحليل هذه الحقيقة نكتشف ان السبب في هذا التحول هو انعدام الحالة الوسطى النموذجية المعتدلة في العلاقة بين الاعلام والحكومة، فإن هناك تطرفا في هذه العلاقة ؛ أما ان يقع الاعلام اسيرا للسلطة..او يخرج من تحت عباءتها بشكل انفصالي كامل كأية شركة اهلية، لتكون الحكومة خرساء بلا إعلام وتكون المؤسسة الاعلامية سائبة وتجارية ومتدنية الدور وبلا مرجعية سياسية.
اذا كان المعنيون في العراق من سياسيين واعلاميين حريصين على نجاح تجربتهم الحالية فالمفروض ان يفكروا بابتكار حالة جديدة من التعاطي بين السلطة والمؤسسات الاعلامية، بعيدا عن الاستحواذ الكامل او القطيعة الكاملة.
والقضية تبدأ من التمويل، اذ يمكن للحكومة ان تتحمل جزءا من تمويل وسائل الاعلام تمويلا غير مشروط، باعتبار ان هذه المؤسسات هي جزء من المجتمع المدني الذي تسعى الحكومة لتنميته وتطوير مؤسساته.
ويمكن أن تسدّ هذه الحالة ثغرة في الامن الوطني خاصة عندما تجد جهات معادية الفرصة سانحة لشراء الصوت الاعلامي الوطني مستغلة أزمته المالية لكي يتحول الى مروج لسياساتها.
وبعد مشكلة التمويل تظهر مشكلة الحقوق الانسانية للاعلاميين ، وهو دور حكومي ايضا فالجميع الآن يعانون من فقدان الأمن المهني او المعيشي بسبب عملهم في مؤسسة تبدو وكأنها بائع متجول لايفكر الا بقوت يومه.
وكما هو معروف لايمكن لأية صنعة او مهنة ان تزدهر وتتطور مادام القائمون عليها يعيشون قلقا متواصلا يخص مستقبلهم المعيشي،فإن الضمانات المعيشية والمساعدة الحكومية في التمويل ستجعل وسائل الاعلام تشعر بالانتماء الى وطنها وتجربته وتبذل جهدها لخدمة هذه التجربة من موقع الهادي والموجه للرأي العام والمساهم في اعادة بناء المجتمع بعد هذه التجربة من التفكك الاجتماعي الخطير.

تطور اهتمامات الاعلام العراقي الراهن
في هذه الايام التي انحسر فيها الارهاب وبدأ عهد جديد من الاستقرار والاعمار والتداول السلمي للسلطة، سوف تظهر استحقاقات الاستقرار على جميع الاصعدة ومنها استحقاقات القطاع الاعلامي الذي بدأ يفكر بنهج اكثر عمقا واحترافا باحثا عن الهوية الاعلامية المميزة لعراق حر تعددي ، وهنا يأتي دور الحكومة لاسناد هذه المؤسسات واحتضانها لتؤدي دورها الحضاري بالشكل المطلوب.
ومع هذا التطور المهم للإعلام برزت الكثير من القضايا التي تهم الاعلام العراقي ولها صدى كبير في العالم كله. وهناك حديث مهم عن الصور المتبادلة بين العراق وبين الآخرين في العالم ، وأثير ذلك في العديد من المناسبات مثل كيف ينظر العراقيون الى العرب والأمريكان والأوروبيين وكيف ينظر الأوروبي والأمريكي والعربي الى العراقيين وهو ما أصبح محل دراسة لدى باحثينا اليوم باعتبار ان الأمر يؤثّر على الشعوب والعلاقات السياسية.
والصور المتبادلة النمطية أصبح سهلا أن نرصدها في ظل التطور في الإعلام، لأن الإتاحة الهائلة لهذه الصورة لدى قطاعات واسعة من الشعب لم تكن موجودة قبل ذلك، فالعائلات الفقيرة الآن لديها الفضائيات حتى في القرى وهناك شغف بمشاهدة هذه الفضائيات من قبل طبقات شديدة الفقر من الناحية الاقتصادية.
وهذه الصور المتبادلة المتكونة للعراقيين وللعرب والمسلمين إزاء الآخرين يجب أن تكون محل اهتمام الإعلام، وهناك قضايا أخرى أصبحت محل تركيز واهتمام مثل قضايا المرأة ، وقضايا الأقليات، وقضايا البيئة والخدمات والأمن والارهاب وغيرها.
والصورة النمطية التي تحاول مصادر إعلامية عربية وغربية أن تلصقها بالعراقيين والإسلام والمسلمين تمثل إحدى القضايا الجديدة المطروحة علينا، وأهم تطور يحدث في عالمنا اليوم ويتصل بالإعلام هو ما تتعرض له المجتمعات العربية والإسلامية من رياح حقيقية للتطوير وخاصة التطوير الديمقراطي.
والواقع أنه لا يوجد إعلام حقيقي دون ديمقراطية، وهذا الوضع الجديد هو الذي يمثل التحدي الأساسي للإعلام في العراق ، وكلما استطعنا أن نوفر مناخا ديمقراطيا حقيقيا استطعنا أن نتوصل إلى إعلام حقيقي وفاعل.
إن المنافسة الجارية الآن بين القنوات الفضائية هي نوع من المنافسة التي يستحيل تجنبها، فالمشاهد العربي في أي بلد، ما عليه إلا أن ينظر إلى مئات المحطات المعروضة عليه ويتجه إلى أكثرها صدقا وهذا المناخ الجديد سوف يفرر في النهاية الفضائيات الناجحة التي تتناسب مع العصر وتلك الفاشلة التي لا تزال تعيش في عصر مضى، فالإعلام الذي يستطيع أن ينجح في أن يتعامل ويلبي متطلبات التطوير الديمقراطي الحقيقي هو الإعلام الذي سوف يستمر وسوف يزدهر، أما الإعلام العاجز عن ذلك التطوير مهما رفع الشعارات سوف يضمحل ولا مكان لإعلام ناجح إلا في مجتمع حر.

البديل الوطني :اعلام الاعتدال وروح الحوار
ينبغي ان يعرض الاعلام الهادف المعتدل ما تختزنه القيم الاجتماعية من قدرة رائعة على إرساء ملامح التعايش والتسامح واللاعنف في المجتمع العراقي بكافة أطيافه وانتماءاته وتوجهاته، كما يدلل على ذلك بشكل واضح تاريخ التجربة العربية والإسلامية في الحكم منذ قرون عديدة، يعضد ذلك كله حركة العقل الإنساني والوجدان الجماهيري الذي يأبى بطبعه حالات التطرف والعنف والإرهاب والتخريب والعبثية والتجهيل كوسائل أولى يعالج الواقع على ضوئها.
والاعتدال في الخطاب الاعلامي هوعدم الميل يمينا أو شمالا بحيث يكون خطابا غير متمترس أو متخندق خلف اطروحات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية معينة وهذا بطبيعة الحال يؤثر في المتلقي حيث لايميل به بحسب الوجهة التي أرادها صاحب القراءة سواء كانت دينية ايديولوجية ام علمانية ليبرالية أم غير ذلك ، بل يطلقه كمتلق واع يفكر ولايكفّر ، يختزن قدرة على استيعاب وجهات النظر المختلفة دون ان يعني هذا بالضرورة محاكمتها آيدولوجيا أو عقائديا، كما لايعني بالضرورة ايضا تأثره بكل مايلقى اليه من ثقافات وأفكار..
وهو الإعلام الذي ينطلق من أسس فكرية وطنية واجتماعية وعالمية تحقق له أهدافاً سامية في التعايش والانفتاح والحوار ، فيرقى بالإنسان في جميع الجوانب التي يحتاج إليها في الجانب الفكري والعقدي والثقافي والاجتماعي والنفسي والاقتصادي والترفيهي.
ويذكر ان كل إعلام منضبط يستخدم الأساليب والوسائل المتاحة لإيصال الرسالة فهو إعلام انساني هادف.. بينما هناك مؤسسات إعلامية تنسب للإعلام الإسلامي وقد تكون تقدم برامج بعيدة عن الإعلام الإسلامي الهادف..ويوجد إعلام هادف في مجالات الحياة المختلفة وليس إسلامياً بالمصطلح السائد، ولكنه هادف من حيث أنّ من يتابعه يستفيد منه استفادة عملية في أمور معاشه، فهو بهذا ينضم إلى الإعلام الهادف.
الاعلام الوطني: أهداف وأساليب مقترحة
ويسعى الإعلام الوطني المعتدل والملتزم بالقيم الانسانية الخيرة إلى تحقيق أمور هامة، نذكر منها:
1. توفير المعلومات عن الظروف المحيطة بالناس (الأخبار)، ونقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل، والمساعدة على تنشئة الجيل الجديد من الأطفال أو الوافدين الجدد على المجتمع، ومساعدة النظام الاجتماعي؛ وذلك بتحقيق الاجتماع والاتفاق بين أفراد الشعب أو الأمة الواحدة عن طريق الإقناع في لمّ شمل الجماهير وضمان قيامهم بالأدوار المطلوبة.
2. مواجهة حالة الضياع والتطرف التي يعيشها المجتمع المعاصر عامة، والمجتمع العراقي خاصة، بما يعيد التوازن السليم بين القيم والمتغيرات السياسية التي يمر بها العراق وهو يتجه الى بناء دولة القانون والمؤسسات ، مع الأخذ بنظر الاعتبار مستحدثات العصر الفكرية منها والمادية.
3. تحقيق مواجهة إيجابية فاعلة أمام حملات غير المسلمين ممن يعادون الإسلام إما جهلاً به أو حقداً عليه، وذلك من خلال أجهزة ووسائل متطورة تواكب مطلوبات العصر؛ بما يحقق إعلاماً قادراً ومتميزاً يقوم على المنهج العلمي الحواري الصحيح.
4. تقديم المادة التربوية والاخلاقية وفقا لأصول الثقافة العربية والاسلامية ونقد ما لصق بها من شبهات وافتراءات، من خلال برامج تجمع بين قوة الحجة وفنّ الإقناع والتأثير، الى جانب الجاذبية وحسن العرض.
5. وله أهدافه الترفيهية، فهو ايضا للتسلية والترويح، ولتجديد النشاط من اجل أداء الواجبات والقيام بالمسؤوليات..كما أنه أيضًا للتدريب على معاني القوة ووسائل التقدم والمواجهة ..
ويتم ذلك من خلال الدعوة والترويج إلى اعتماد أفضل أساليب القول والأداء في ممارسة الإعلام ودعوة الآخرين: والتي تتمثل في؛
اولاً: اللين والاعتدال في القول والخطاب والاداء واختيار المفردة.
ثانياً: البصيرة والتعقل والدقة في التوصيل والمواجهة والطرح.
ثالثاً: الحكمة والحِرفية في العرض واختيار الوقت والموضوع المناسبين.
رابعاً: الجمالية والروعة في الاداء والابتكار .
خامساً: مناغمة ذوق العصر واساليبه الفنية الحديثة..
سادساً: لا بد من هضم تجربة الإعلام في أوروبا، واستعراض الخبرات الأوروبية في تطوير وسائل الإعلام، وبصفة خاصة النموذج البريطاني، والفرنسي، والتشيكي...فقد قدم الإعلام الأوروبي المحلي نموذجًا في نجاح محطات الخدمة العامة في تقديم بديل مجتمعي للإعلام الرسمي الحكومي من جهة، وبكسره لاحتكار الإعلام الخاص من جهة أخرى.
وهذا ما يتيح الفرصة للباحثين والإعلاميين العراقيين ؛ لاستكشاف الخبرة الأوروبية في مجال الإعلام المرئي والمسموع؛ والاستفادة بمزاياها في تحرير الإعلام العراقي وتنظيم وإعادة هيكلته .
وهذا يشمل كل انواع الاداء الاعلامي المرئي والمسموع والمقروء،وفي هذا المجال بالذات يمكن الاستفادة من التجارب والخبرات مهما كان مصدرها لأن الامر هنا يتعلق باستعارة الاساليب الجمالية المبتكرة والقوالب الفنية الحديثة لتمرير المضمون الخاص، وهذا اشبه بالحكمة التي يأخذها الانسان من أي مصدر كان..

المرثية الأولى لدار السلام


أغفو على كف الرياح
فتتبع الغيلان
أشرعتي
و تصحبني
الى حيث التواريخ الظميئة
والعصور المستضامة
والمدائن
وهي تلتحف السماء
و تستحيل
الى رمادٍ
أو سياط!
سألم أشرعتي
و اقبع في الضباب
و اسمع الأشباح
خلفي
يامبحراً...
أنتَ...
المجنن في هواه،
أو ليس تكفيك
انتباهة عاشق
خبر الورود
و عرّش اللقيا
بروجاً في مداه؟
فأجيب..مهلاً...
ثم يغمرني الندى المبتلُ
والشعر المعتق
في أساه؛

بغداد تلفظ جمرةً
عند المغيب
وعلى شواطئ ليلها الفضيّ
تطلق صوت مأذنةٍ
و تعلن أنها قد أنكرتني!
أنكرت كل الحروف الخضر
لم تؤمن بغيرالكأس
أبقته
بكف أبي نؤاس!
بغداد - مهلاً-
وجهنا الخزفي
نام على مرايا (ساحة التحرير)
رف على جناح الريح
يحلم
أن يقبّل من نهيرك
ضفتيه
يأتيكِ..
يمنح للحمام منارةً
و يصوغ أغنيةً
لمحرقة الهوى المجنون في الأحداق
مذ القي بحاضرك المغول
في بطن دجلة
ما استفاق على الفجيعة
شهريار
جفّت محابرها
و أعشب في رباها القحط
و انتحر النهار
عشقت حكايات العجائز
ولّى وجهها الخمريُّ
والألق استحال
الى رصاصة!
عبثت بها أقدام هولاكو
وآختها حرائقها
فها هي...
تمنح الغازين
جثتها الموات

تتقيأ اللهب القديم
فيشرب الشعراء نخب الانتصار
وعلى شميسة (ساحة الطيران)
كانت...
كانت تعانق بروحه الأرض
تمنح عاشقيها قبلةً
وللصغار
رغيف خبزٍ
لا يبلله سوى قطرات طل حانيه

بغداد تلفظ جمرةً عند المغيب
تلك المرايا...
ما صدئن
ولم تزيّف قط أوجهنا
السنين
جنكيز !! فاشحذ سيفك التتري
و اذبح عاشق النهرين
علقه على جسر الرصافةِ
ينتهي نصفين؛
نصفٌ للرماد
و آخرٌ
يختال في زهو الحكايا
إذ ذاك تعرف في مرايا دمعتيه
بأن للغرباء معنى!

بغداد...تنكرهم
و تلفظ جمرةً
عند المغيب!

الاثنين، 1 يونيو 2009

قصيدة طيور فوق معزوفة الاحتراق!


لا بد من ضحايا أثناء الزحف داخل النفق؛ ريثما نصل الى نهاية المطاف..

وثمة..
في أقاصي الروح..
في غاباتنا..
اشتعلت طيور الحب
نازفةً غناء الروح!
وثمة..
فوق طوفان اللظى المجنون؟
قد هجر السنونو البحر
أو أغواه نبض الجدول المذبوح؟
أيأتي الآن...
سرب من طيور الله ...
تفتّش بين كومة ذكريات
وتنقر في الشبابيك العتيقة!!
لعل يجيء عاشقها
فيولم روحه شجرة لزقزقةٍ
سيطلقها فم الطوفان!
أراكِ هناك...
مثل الظلّ..
تحتضنين من قلق الليالي الخضر
أزمنتي!
لتصحو في محطات البنفسج..
كل سخونة الأشعار!
وفي عينيك
في سحر انتظارهما
يجن هواك في الأعماق...
يحضنني
و يغريني
لأقطف
- من مواسمنا التي يبست بها الدنيا-
رصاصة!
فمن أين استفاق النبع في الكلمات
بحراً يفتديكِ
ويفتدي ضمأي!

وثمة عازف
سقطت طيور الحب
في عينيه
فاحترقت
على قيثارة الأوتار!
و حين تناثرت أشلاؤه
غرست بأجنحةٍ ملونةٍ
لأجلك؛
غابة زقزقات!
أريج الدم كان يفور...
ليبعث كل عشاق التمرّد
من مضاجعهم
ويطلقهم فضاءً ازرقاً
يأوي طيور الحب
في أحلى عرائشه
و يهديهم لفرط الحب
وردة!

التحولات البنيوية في المجتمع العراقي بعد 2003


مر المجتمع العراقي بعد 2003 بمرحلة من التحولات الكبيرة هي الأقسى منذ ان تشكلت دولة العراق عام (1921) ، بسبب ما خلفته من ردود الفعل الاجتماعية حينما تم إختبار إدخال المكونات العراقية في نوع من القبول بالاخر ، لكن هذا المستوى من العيش المشترك لم يرق الى التعاقد الاجتماعي الذي يحقق نقلة نوعية في العلاقات الاجتماعية لا بسبب التعددية التكوينية في الوسط العراقي بل بسبب كوابح وموجهات سياسية مختلفة .
وعلى الصعيد الاجتماعي فقد لانجانب الصواب كثيرا حينما نذهب أو يذهب أي باحث آخر إلى أنه حتى المتغيرات السياسية غدت خاضعة لظروف وعوامل أخرى أغلبها اقتصادية- اجتماعية، فالتعامل مع أية ظاهرة عبر زاوية واحدة هي الزاوية السياسية ينطوي على تبسيط مبالغ فيه جدا نظرا لما يجري من تفاعلات وتناقضات وتصادمات فوق سطح المجتمع- أي مجتمع- وتشكل ملامحه المتغيرة.
شهد العراق منذ العام (1921) الكثير من الإنقلابات وإسقاط انظمة وحكومات،لكن تغييراً سياسياً كبيراً حصل بعد التغيير السياسي عام 2003 ، كما رافق ذلك حصول تخلخل وتشظي في بنية المجتمع العراقي .
ان هذا الموضوع على اشد ما يكون من التعقيد والتشابك ليس بسبب تعقيدات البنية الاجتماعية العراقية بحد ذاتها حسب، بل لاسباب متعددة منها اننا نتحدث عن اقدم المجتمعات في العالم وعن مجتمع لا يقتصر على عمقه الزمني، بل على مركزيته الجغرافية في كل من العالم القديم وعالم اليوم ايضا.. اما البعد الاخر، فان مجتمع العراق مزيج من بقايا ثقافات وحضارات متنوعة وعديدة، فضلا عن كونه فسيفساء من السلوكيات التي افرزت هذا ( التنوع ) في الالوان وهذا التعدد في الاطياف.
وبدءًا لا بد من القول ان هنالك جملة من العوامل التكوينية التي شكلت هذه التعددية في المجتمع العراقي خلقتها العديد من التبدلات في الاقوام التي وفدت او عبرت او حاربت او هاجرت الى ارض ما بين النهرين والتي اختارت العراق سكنا لها بالاضافة الى غلبة العشائرية التي تتنقل بين العراق والدول المحيطة به ثم تحولت هذه العشائر من البدوية الى النهرية، فامتهن العديد منها الزراعة في الوقت الذي استمرت فيها هجرة قبائل يدوية من الصحراوات المجاورة في الجنوب والوسط والشرق.
كما ان هنالك قوى رئيسية فاعلة في تشكيل هذه المراحل الاربع هي : الحكومة ، والشعب العراقي عموما والحوزة العلمية ،والنخب العراقية المختلفة. ولكل رؤيته وآلياته للتعامل مع المجتمع .
بقى المجتمع العراقي منقسما الى ريف وحضر لرفد الزراعة وبناء الدخل الوطني، ثم توسع السوق وتم انفتاح السوق العالمية على السوق العراقية، وبدأ الثراء يدخل ميزانية الدول الملكية، فتوسع الانفاق الحكومي وتركز ذلك في المدن وبغداد بالذات لوجود الدولة ودوائرها فيها كما انها ضمت الملاكات المثقفة والمدربة الاقدر على ان ما وصلها من واردات النفط الى انجازات بلغت اوج تفوقها في تأسيس مجامع الاعمار في الخميسينيات من القرن الماضي.
ولقد كان للتجنيد رغم ان الغرض منه الولاء للدولة بعلمها ورموزها الا انه لعب دورا في تمكين العديد من مجنديه -وهم ريفيون- بناء سلوكيات انضباطية مما حوله الى شبه مدرسة للتدريب على الحياة المقبلة في الاوساط الحضرية-المدن.
والخطأ الذي وقعت فيه الوسطى العراقية مع كل ما احدثته في هز الركود العراقي الذي وصل الى حد التسليم وتوقع المكروه اذ اخذت الوسطى العراقية تبشر بان الفقر ليس قدرا وان المرض ليس ابتلاء وان الاحتلال ليس عقابا وفاقا على البطر والقناعة وعدم الالفاظ عن هم اكثر سوءاً منا، فان الوسطى العراقية مالت الى دعم الدولة وذلك للتسريع بعملية التحول والاعمار بالذات وبذلك وقعت فريسة للدولة .
لكن سياسيا فالعراق طيلة هذه الفترة الزمنية السابقة على 2003 كانت سياسته قائمة على أساس العنف والإقصاء وتهميش الأكثرية طبقية كانت أو طائفية ، الأمر الذي صنع منه وبسبب هذه التراكمات غير الصحيحة عنصرا تمييزيا (طبقيا) اعان عليه الاعتقاد الذي ساد بعد التغيير هو ان من كان يحكم سابقا وهو مضطهد أولى بالحكم الآن ، تلك النظرة التي أصبحت عاملا مجهضا لديمومة العراق في شكله الإنساني المرتبط بخيارات المواطنة والمجتمع المتعدد المشاركة والهويات مادامت هناك جميع هذه القوى المتصارعة فيما بينها بشكل عنفي وإقصائي.
وامتازت العلاقة السياسية بمعادلة غريبة مفادها هيمنة الأقلية على الأكثرية- على طول تاريخ الإسلام في هذا البلد- وأن هذه الهيمنة رافقتها عمليات عنف وتحجيم لدور كثير من الطوائف والاثنيات ، ومحاصرة للنتاج الثقافي والديني، وأحياناً الاعتداء على المقدسات الإسلامية.
وهكذا مرت سنوات عصيبة استمرت منذ (1968) حتى انهيار النظام في 2003 ثم بدأت الحركة التغييرية بسقوط النظام الدكتاتوري وتحديثات بول بريمر التي تركزت على تنشيط فعاليات المجتمع المدني للحد من محاولة اعادة انتاج العهد التسلطي ومحاولة توزيع الديمقراطية على جميع مكونات المجتمع العراقي .
وبعد ان تم تشخيص ما اصاب النسيج الاجتماعي في العراق من تقطع لبعض جوانب انشداداته رغم اخطاء حكوماته التي قصرت في ايجاد حلول لمشكلات علاقاته وانصب اهتمامها على تمكين بنية الدولة بعد التغيير السياسي (2003) ، فان المشكلات الاساسية يمكن تلخيصها بأنها ذات طبيعة ميدانية اجتماعية سياسية تطرح ثنائية الثورة/ الدكتاتورية.
والتغيير اذا لم يستطع ان يتحول الى البناء فانه يلجأ الى الشعارات والعنف وبذلك يصاب المجتمع بما يدفع به للتحول نحو الديكتاتورية قد ينزل بالتغيير الى مجرد انقلاب وانقطاع للاستمرارية وتراجع في التجربة ما يجعلنا نكرر البدء في الصفر دون تراكم وبناء مؤسسات.
وقد شخص المفكر الاجتماعي علي الوردي سبب النكوص الحضاري الى غلبة الوعظ والوعاظين في اوساطنا وزاد بان قرن بين ماسماه وعظ المعممين ووعظ المتمدنين فالممارسة نفسها لذا فقد مال المتمدن الى التعليل دون التحليل اذن لابد من كسر دائرة الوعظ والواعظين كي ينطلق الفرد العراقي رغم تأكيد الوردي بان السوء طبع انساني علما ان السلوك ومهما كان فانه متعلم لذا فان علينا الا نخاف السلطان ولا نخشى الشيطان كما اورد ذلك جمال الدين الافغاني مع اضافة ونعمل لمصلحة الانسان والانسان العراقي.
وطرح حنا بطاطو اشكالية ملخصها ان الطبقات والتقليدية بالذات رغم انها مقبولة الا انها بعيدة عن العصر ما يدفع بالاجيال الشابة الى الانتظام بحركات ثورية لتفكيك هذه الطبقات وبعد ان يتم ذلك فانهم يبدأون بالشعور بالذنب لفقدهم جذورهم التقليدية ما يجدد حضور الطبقات التقليدية.
والخلاصة ان ما تعرض له المجتمع العراقي من قلق وعنف وآلام هو ناتج لمخاضات غير مثمرة وتراكم سلبياتها لذا يتوجب اعادة بناء الطبقة الاجتماعية بشكل عادل وفق معايير الكفاءة وان يوكل اليها اعادة هيكلة المجتمع المدني وحقوق الانسان عندها يكون مثل هذا المجتمع مؤهلاً لدعم دولة المؤسسات.
لقد اساءت قطاعات من الشعب/المجتمع في العراق قراءة المشروع الاميركي فنسجت على منواله وبذلك توقفت جهود هذه المكونات عند ردود الافعال وان اخذت تدرك ضرورة التشكل المجتمعي المتماسك بعد ان دفع الشعب/المجتمع العراقي ثمنا فادحا من امنه وخدماته وبناه التحتية بفعل عوامل الارهاب والتخريب والتطرف والطائفية ، والذي تمثل في تهجير العديد من ابنائه واغتيال كفاءاته الى غيرها من الافعال الغريبة على السلوك العراقي والذي طبع على مر تاريخه الاجتماعي بالغيرة والتسامح والتعايش .
وعلى الرغم من محاولات الاحتواء ظهر الرد المتوقع الأمر الذي سهل ظهور عمليات (القتل على الهوية) و(التهجير) الحدثان الأبرز على الساحة العراقية بعد التغيير بفترة قصيرة ، ( فالفعل العنفي هو نتاج لحالات من التوتر الفارد أو الجامع، وفي كل فعل يتلازم الخير والشر، اللاعنف والعنف، إذا أخذنا بالاعتبار وضع الفاعل والقابل، ونسبة الفعل وتفسيره. وحتى لا نخفض السلوك العنفي إلى مجرد مقولة أو مصادرة فلسفية، نقول: إنه ظاهرة اجتماعية واقعة، تجد تفسيرها في التاريخ الإنساني ذاته، وفي تواجه الطاقات النفسانية والاجتماعية والاقتصادية، أي طاقات القوة نحو تنازع الوجود وتغالب الإرادات ومما لا ريب فيه أن الفرد أو الجماعة يكتسبان السلوك العنفي/ اللاعنفي من خلال الثقافة التي توجه المجتمع، وتحكمه أو لا تحكمه من خلال أدوات الضبط العنفي ومعايير السلوك وقيم السياسة ) .
ان القاعدة الاجتماعية العراقية لم تتحول بعد التغيير السياسي في العراق إلى قوة اجتماعية مهيمنة ، الامر الذي أدى إلى نشوء الفراغ الامني وما نتج عنه من تدمير بقايا الدولة عبر عمليات السلب والنهب والتدمير، سرعة انهيار أجهزة الدولة وخاصة المؤسسة الدفاعية والأمنية..
وهذا بدوره خلق نمطا جديدا للحياة الاجتماعية في العراق يخالف الاسس السيوسيولوجية لتشكيل نمط الحياة في مجتمع يريد ان يبني هياكله الادارية والسياسية ..

الأحد، 31 مايو 2009

في إعلام الانتخابات..


تعريف
إن التدفق الحر للمعلومات والأفكار يعتمد على صميم فكرة الديمقراطية وأهمية تحقيق احترام فاعل لحقوق الإنسان. وفي غياب حق حرية التعبير - والذي يتضمن حق البحث والاستلام ونقل المعلومات والأفكار- تغيب أو تبتعد فكرة الديمقراطية في ذلك البلد.
إن تثقيف الناخبين هو كل نشاط تثقيفي يُقام في فترة الانتخابات بهدف التشجيع على الانتخاب وتعزيز الديمقراطية والوعي الانتخابي لديهم.. ومن هنا يأتي الإصرار على ضرورة إشراك الاعلام في التثقيف ، فإضافةً الى ماتمثله وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة باعتبارها مصدرا مهمًا من مصادر التوجيه والتثقيف في أي مجتمع ..فانها تعلب دورا في الحياة العامة و السياسية و خصوصا في فترة الانتخابات ولها تأثير مباشر في الرأي العام .
ويشمل هذا التعريف مجموعة واسعة من الأهداف، من ضمنها المعلومات الانتخابية الكثيرة التي تتوزع عل مرحلتي التسجيل والاقتراع ، وحقوق الناخبيين والآليات المعدة من قبل الجهة المنظمة للانتخابات وهي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.. إلا ان المفوضية في عملها على ادارة وتنظيم الاحداث الانتخابية ، تعمل مع شركاء مهمين و تعتبر وسائل الاعلام من اهم الشركاء في العملية الانتخابية .
والموضوع ليس خاصاً بتناول التثقيف الخاص بوقت الانتخابات او قبيلها بل هو الإعلام الذي يشمل الأنشطة التثقيفية الدائمة التي يستفيد منها الأشخاصُ المؤهَّلون قانونياً للتصويت أو الذين هم على وشك التأهُّل لذلك.
وثمة تمييز بين هذا النوع من التثقيف و(الحملات الإعلامية) التي تجري وقت الانتخابات؛ ففي بعض الحالات يكون هذان النشاطان بإدارة هيئتين مختلفتين...وهذه هي الاشكالية التي شخصت أمام عمل الهيئات الاعلامية في كثير من التجارب ومنها التجربة العراقية، إذ تُدرج تحت عنوان تثقيف الناخبين أنشطة إعلامية لاتتعلق بالديمقراطية والانتخابات عموماً، بل بقضايا انتخابية خاصة تتعلق بعملية التسجيل او تحديث سجل الناخبين أو آليات الاقتراع..ظناً من البعض أن تثقيف الناخبين على هذا النحو الواسع إنما هو نشاط ايديولوجي أو حزبي يجب أن يُترك لأحزاب سياسية أو منظمات المجتمع المدني!
مع إن هذا النوع من التثقيف يساعد كثيراً على حسن سير الانتخاب ورفع نسبة مشاركة الناخبين والخروج بنتائج انتخابية ناجحة وشفافة..

الأهداف
تشجّع البرامج التثقيفيَّة التي يشترك فيها الاعلام على المشاركة الناشطة في الانتخابات وتقدّم إلى الناخبين معلومات واضحة حول اجراءات الاقتراع. فهي تساعد الناخبين على أن يفهموا بمزيد من التمييز المعلومات المنشورة حول الحملات الانتخابية والمرشحين وكيفية الاختيار الصحيح أو الاستفتاء الملائم.
ويمكن أن يساهم هذا الإعلام في خفض كلفة استحقاق انتخابي وفي زيادة مشاركة الناخبين والحدّ من التوتُّرات ومظاهر التعصُّب، وفي حمل الناخبين، في ظروف نزاعية، على تقبّل نتائج الانتخاب.
ويهدف تنفيذ البرامج التثقيفيَّة اعلامياً إلى تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، كلياً أو جزئياً. غير أن هذه البرامج أثناء الحملات لا تكفي وحدها لبلوغ كل تلك الأهداف المشروعة، فتثقيف الناخبين يجري في أثناء الاستحقاق الانتخابي وفي سياق عملياتي خاص ، وهو لا يمكن أن يحلّ محلّ تخطيط انتخابي تثقيفي جيّد مؤثر بعيد المدى يحتل فيه الاعلام دور الصدارة في الكشف والتحليل والرصد والايصال المعلوماتي الدقيق.

المبادئ الأساسية للاعلام الانتخابي
ووفقا للمعايير الدولية فان الاعلام في فترة الانتخابات عليه توخي ثلاثة مبادئ أساسية هي :
أولاً: الدقة في الحصول على المعلومة.
ثانياً: التزام الموضوعية في نشر المعلومات.
ثالثاً: عدم التحيز والتعامل المنصف مع جميع الكيانات السياسية والمرشحين دون اعطاء الافضلية لاحد منها .

دور وسائل الإعلام إثناء الانتخابات
وفي ضوء هذه المقدمة يمكن تحديد دور وسائل الاعلام في الانتخابات في اطار محورين
المحور الاول :- يلعب الاعلام دورا مهما في تغطية حراك العملية الانتخابية وكل النشاطات والاعمال والمراحل التي تقوم بها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وصولا الى يوم الاقتراع واجراءات العدوالفرز ثم اعلان النتائج .
المحور الثاني :- كما يلعب الاعلام دورا اخرا يتمثل في تغطية الحملات الانتخابية للاحزاب والمرشحين المتنافسين فيما بينهم للفوز بالمقاعد .
وعلى وفق هذين المحورين على وسائل الاعلام القيام بالمهام والادوار التالية:
1. تثقيف وتحفيز المواطنين ممن لهم حق المشاركة في الانتخابات على الايجابية والذهاب إلى صناديق الانتخابات للإدلاء بأصواتهم .
2. وتثقيف الناخب على أهمية صوته ومدى تأثيره , لذا فإن عليه التدقيق فيمن يختاره ليعطيه صوته .
3. التغطية الكاملة والدقيقة والمتوازنة للحملات الانتخابية للمرشحين باختلاف انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم الفكرية .
4. إثارة حوار ونقاش عام حول أجندة القضايا التي تطرحها البرامج الانتخابية للمرشـحين وعلاقتها بقضايا المجتمع .
5. تقديم تغطية تحليلية وتفسيرية لهذه البرامج بما يساعد الناخب على التمييز والاختيار بين المرشحين ( دون الوقوع في إشكالية التحيز لمرشح معين بشكل مباشر) .
6. كما ان على وسائل الاعلام الالتزام بالقواعد والنظم القانونية وماتتضمنه من تنظيم لعملية التغطية الاعلامية في فترة الانتخابات .

الخطة الاستراتيجية
من الممكن تعزيز دور كلّ من هذه الأنشطة بفضل دعاية فعّالة متمحورة حول السيرورات الإدارية للانتخابات، وبفضل حملات إعلامية انتخابية وبرامج تثقيفية متمحورة حول دور الانتخابات.
ويتعيَّن على المسؤولين عن التثقيف أن يكشفوا عن آراء الناخبين وممثّلي الأحزاب السياسية والجمهور الواسع إذا أرادوا أن يحسنوا توجيه حملاتهم الإعلامية؛ كما يتعيَّن عليهم أن ينقلوا معلومات موافَق عليها من قبل مديري الانتخابات لكسب ثقة الناخبين.
أهمية مشاركة وسائل الاعلام في البرامج التثقيفية، ومساهمة المواقف الإيجابية والحكيمة لمديريها في تخفيف الموازنة المخصَّصة للتثقيف.
إنّ مختلف تقنيات الاتصالات والإعلام والتثقيف متداخلة. وعليه، تمثّل تقنيات الدعاية والتسويق مكمّلاً جيداً لطرق التثقيف الجماهيري والجماعي. وينبغي أن يرتكز اختيار الطرق على الهدف المقصود والسياق المعني والموارد المتاحة، وليس على رأي مسبق بما يجدر فعله.
ينبغي على المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ،بدلاً من إنشاء خطط تثقيفية واعلامية ضخمة ومحاولة القيام بكل شيء بهذا الصدد ، أن تعدّ خططاً دقيقة لتشجيع مشاركة وسائل الاعلام والاعلاميين في هذا المجال. ومن حسنات هذا الحلّ أنه يحدّ من التكاليف الإدارية والوقت اللازم ويُشرك أكبر قدر من المواطنين في السيرورة الانتخابية. هذا بعد أن نضع تحت تصرّف المسؤولين عن التثقيف والاعلام منافذ إلى جميع أنواع المعلومات الانتخابية ، من نشرات إعلامية وتعليمات ونشاطات تثقيفية ، إضافة إلى موارد أخرى مثل الملصقات والرسوم.
على كل بلد أن يجد المقاربة التي تناسبه، وخصوصاً إذا كان ينوي تنظيم العملية أو قوننتها؛ غير أن معظم البلدان تميل إلى عدّ إعلام الناخبين والتثقيف كنشاط أساسي ومهمة أساسية من مهمات الجهاز الانتخابي. أما التثقيف الأعمُّ حول الديمقراطية نفسها، فيُترك للتجربة المُعاشة أو لمبادرة المواطنين.
بعد ذلك، يتعيَّن على المسؤولين عن تخطيط البرامج تحديد مجموعة الأدوات التي سيستخدمونها للإعلام والتثقيف: وسائل الإعلام، مؤسسات تعليمية، منظمات أهلية، مقابلات شخصية، مطبوعات، برامج إذاعية أو تلفزيونية..إيجاد شركاء..وصوغ الرسائل الملائمة.
على المسؤولين عن برامج التثقيف الاعلامي أن يستخلصوا العبَر التي ستساعدهم على إعداد البرامج المقبلة. وقد يضطرّون أحياناً إلى تقويم كل مرحلة من مراحل البرنامج المنفَّذ بهدف تحديد إطار البرنامج المقبل على وجه أفضل، ورسم الاستراتيجية المقبلة.
وأخيراً ، تبقى خير وسيلة لنشر المعلومات هي مايسمى بـ(التلقيح المتقاطع) لآليات مستخلصة من تجارب عدد كبير من القيّمين على التثقيف، المهتمّين بتبادل ملاحظاتهم في إطار ندوات، وبرامج تبادل ومناقلات قصيرة الأجل.

الثلاثاء، 19 مايو 2009

قضية المرأة في العراق


في مسيرة قرن من عمر العراق الحديث سجّلت التطورات الاجتما عية والسياسية واقتصادية كثيرا من المتغيرات. ولقد كانت التراكمات الهائلة للاحداث قد ولَدت تغيرات نوعية عكست عددا من الطفرات الموضوعية في الحياة العامة ، كان من أبرزها صعود دور المرأة العراقية وتعاظمه ، الامر الذي جسّدته القوانين العراقية مثلما برز في تفاصيل المشهد الاجتماعي..
ففي الوقت الذي كانت فيه المرأة مطلع القرن الماضي حبيسة البيت وجدرانه.. وفي وقت كانت لا تخرج من بيت أبيها إلا إلى بيت زوجها حيث يوصف البيت الذي تعيش فيه (بالقبر) حسب الميثولوجيا العراقية وحياتها بلا جدوى ولا أية قيمة إنسانية جدية..
إنّ التعبير عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي في القانون هو عملية معقدة بحاجة إلى مزيد من التفاعل والأنشطة من أجل تثبيت الحقوق وإنصاف المرأة - الإنسان في مجتمع يحمل بين نواحيه تقاليد متخلفة استطاع النظام الدكتاتوري أنْ يدفع باتجاهها عبر القمع والإكراه والتشويه.. وهكذا ظل القانون هو قانون الرجل المستبد المريض، ومن ثمّ فلسفة الأحادية والذكورة والفحولة وسطوة قوة تستلب المرأة من حقوقها حتى أبسطها...
ان الممارسات العنفية السلبية والمريضة لم تستطع اختزال المجتمع وحركته الإيجابية في سياستها الظلامية..ولكن ما يجب الالتفات إليه هو أنّ أي نظام شمولي من نمط النظام المباد هو أسّ البلاء ليس للمرأة وحدها بل والمجتمع أيضا.
ولابد في جوهر الأمر أن تقف بحزم وقوة من أجل منع تثبيت ما يتعارض مع الحريات الإنسانية الأساس ومع حقوق المرأة الجوهرية وبعد ذلك ليكن ما يكون من أيديولوجيا وغيرها.. المهم أن تعي المرأة لمن تعطي ثقتها.
وإذا كانت معظم الدساتير في الدول العربية قد أتاحت للمرأة ممارسة حقوقها السياسية، وكفلت لها جميع الفرص التي تمنحها المساهمة الفعلية والكاملة في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية... فإن الواقع العراقي يؤكد أن المرأة لم تنل الحقوق التي نص عليها الدستور، لأن السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي في غالبها للرجل.
وبالتالي هو الذي يعطي وهو الذي يمنع. وهذا يعني أن أي تعبير عن وضع المرأة يعتمد أساسا على التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمع. فالتقدم والرقي في أي مجتمع يقاس بدرجة مشاركة المرأة، لأن العلاقة بين وضع المرأة في المجتمع ومشاكل التنمية هي علاقة تأثر وتأثير.
وفي حال فكرت القيادات السياسية العراقية في رفع شأن مجتمعاتها، فعليها أن ترفع من مستوى مساهمة المرأة في النشاط التنموي على مختلف مجالاته. وعليها أن تمحو أمية المرأة، وتؤهلها مهنيا لتتمكن من المشاركة في عملية التنمية، ومن الطبيعي أن تجد في نفسها القدرة على تمثيل نفسها والمجتمع العراقي الذي تشكل أكثر من نصفه حجما.
وفي ظل التحول الجديد في العراق صار عليها أن تصر على التقدم بنسبة تمثيلها في المؤسسات الرسمية وفي التجمعات الثقافية والفئوية والمهنية وغيرها.. وأن تثبت جدارتها عبر الارتقاء بقراءاتها ومعالجاتها لقضايا المجتمع من وجهة نظرها ورؤيتها للأوضاع العامة.. فليس من يعبر عن قضية كصاحبها، وقضية المرأة ووجودها الإنساني لا تحسم إلا بتمثيلها ووجودها. وليس صحيحا أن أنصارها من الرجال يمكنهم التعبير عن قضايا كثيرة مخصوصة في الحياة العامة..
وذلك نظرا لخطورة دورها في الحياة والمجتمع فأن المجتمع الإنساني يحتاج إلى علل وعوامل ليتأمن صفاء الضمير بين أفراده ولا تكفي فقط القوانين والمقررات السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها .
ومن ناحية أخرى ، إن المجتمع البشري الكبير يتشكل من مجتمعات صغيرة عائلية ، أي ان أعضاء العوائل المتعددة هي عامل تحقق مجتمع رسمي ، وما دام لم يقع سبب الرأفة بين أعضاء الاسرة ، فان روح التعاون وعلاقات المحبة لا تقوم ابداً بين أفراده عند تشكل المجتمع الرسمي ، وأهم عامل يثير الرأفة والتضحية والايثار بين أفراد العائلة هو تجلي روح الأم بين أعضاء الأسرة ؛ لأنه رغم ان الأب يتولى الأعمال الإدارية لمجتمع صغير ( أي العائلة ) .. ولكن أساس العائلة الذي شيد على الرأفة والوفاء والارتباط هو بعهدة الأم ؛ لأن الأم تولد أبناء يرتبط كل منهم بالآخر ، والأفراد الذي يولدون من امرأة واحدة ليسوا مثل فواكه شجرة واحدة حيث لا تظهر روح الايثار الإنساني في مستوى النبات وليسوا مثل صغار حيوان انثى يفتقدون التعاون الإنساني ، ولا يتجلى فيهم الارتباط البشري الخاص .
إنّ الخوف من التقاليد أو الخضوع لها أمر يضعف من إمكانات تحقيق مكانة المرأة ومكانها الاجتماعي وهو يُلحقها تابعة صاغرة لمفاهيم تستلبها شخصيتها الإنسانية القويمة، ومن الطبيعي أن تعمل المرأة اليوم أولا بأول من أجل الخطوة الجوهرية الأساس ألا وهي خطوة تثبيت حقوقها الإنسانية في الدستور العراقي المنوي تعديله في أجواء من الصراع العنيف تتصاعد فيه حدة مشاكسة القوى الظلامية وتقدمها نحو تثبيت رؤاها التراجعية ..
إن الدور والواجب على المرأة أداؤه، ليس هدّية يقدّمها الرجل لها، فإذا امتنع من تقديمه فلا دور لها في الحياة، بل هو حق من حقوقها ومسؤولية من مسؤولياتها. وعليها أن تلتزم هذا الحق وتمارس هذه المسؤولية، وإلا فلن يشفع لها أمام الله والتاريخ أن تعتذر بأن الرجال لم يتركوا لها واجباً أو لم يقدموا لها دوراً.
من هنا يمكننا أن نقول: إن التقدم بقضية المرأة مرهون بنجاحها في تنظيم نفسها وحركتها وتوحيد صفوف منظماتها وتنسيق الجهود وشن حملة جدية وقوية من أجل التوعية ومن أجل جذب اكبر تجمع نسوي بعيدا عن سطوة فلسفة الذكورة المقيتة والتحول إلى أوضاع المساواة والتكافل والتكافؤ ..
وبالتقدم في المجالات التي وقف التراجع فيها حالياً ينبغي الاستناد في حركة التوعية إلى قواعد مكينة من تاريخ نضالي للمرأة وللحركة الوطنية العراقية..
ولابد أن يتوّج نضال المرأة العراقية بمبادئ وقوانين وفقرات دستورية صريحة وإلا فستظل رهينة التفسيرات المزاجية لقوى التخلف والظلام المنتشرة المستشرية في الحياة العامة..
لقد عكست مشاركة المرأة العراقية في الانتخابات ضرورة أن تولي الحركة النسائية العراقية اهتمامها الى الجانب الكيفي للمشاركة ، واذا كانت المشاركة في جانبها الكمي من حيث قياس عدد المشاركات هي في حد ذاتها دلالة على وضع المرأة في الحياة العامة ، فانه لابد من استكمال وصف هذا الوضع من خلال نوعية المشاركة لتفعيلها وجني ثمارها.

الجمعة، 15 مايو 2009

الترابط الجدلي بين الفلسفة والرؤى الجمالية

الفلسفة – اليوم- وثيقة الصلة بالفنّ والتأريخ والأدب والدين والأخلاق وغيرها من العلوم والآداب...اختلفت عن المضمون الضيّق الذي منحه لها أرسطو حينما عرفّها بأنها (معرفة الوجود في ذاته) أي البحث في جوهر الوجود, فإنّ ذلك التعريف مع كونه يصطدم بتعريف الوجود ذاته وطبيعته وموضوعه, يجعل من الفلسفة بحثاً نظرياً مجردّاً متعالياً لا إرتباط له بنوعية الفعل الإنساني المؤثر الحكيم الخلاقّ المستند إلى أصول وقواعد ومبادئ أخلاقية ودينية, تصبّ في الصميم من مجموع المعارف الإنسانية...
لكننا للآن نجد بعض الفلسفات الإسلامية تختصّ بموضوعة الوجود المطلق وما يرتبط به من مباحث ذهنية وعقائدية وأخلاقية, ولا تتعداه إلى غيرها مع تطوّر العلوم وتعقدّ الحياة وتجدد مطاليبها ورؤاها وإشكالياتها..
والأخيرة تخالف روح الفلسفة وأقدم تعاريفها (حبّ الحكمة) , إذْ إنّ الحكمة لاتختصّ بمعرفة مباحث الوجود المطلق, فالحكمة المعاصرة تستدعي وضع مناهج وفلسفات ورؤى لتطبيقها بشكل عملي, مع نوع من التطلّع نحو الكمال والرقي والإحاطة ومعالجة مشكلات الواقع المعقّد والعصر المتغيّر, وليس من الحكمة والإعتزال أو الدوران مع مباحث ذهنية مجرّدة أو الغوص في فد لكات وشروح كلامية لإظهار براعة علمية وفلسفية!!
المهمّ أنّ الفلسفة ليس إنعكاساً بسيطاً للواقع أو الزمن أو التأريخ, بل هي تفاعل حيّ جدلي بين الفلسفة وواقعها, تسهم في إعادة بنائه وتشكيله ضمن شروط وحدود وقواعد, ففي كل عملية تفكير فلسفي عودٌ إلى الأصول النظرية الأولى وخطوة إلى الأمام.
ولذا فالفلسفة في موضوعها ومضمونها ومنهجها وتأريخها مرتبطة بالإنسان والحياة والتاريخ والسنن والقوانين الكونية التي تنظمّ التحولات الإنسانية والعالمية والإجتماعية والحياتية في مختلف المجالات, وهي كلمّا إرتبطت بالواقع المعاش أكثر, إزدادت أهميتها وأثريت بحوثها وتمتّن صدقها وتأصّل جذرها.
(إنّ صدق فلسفة ما وأصالتها يكمن في تأليفها بين ما هو مؤقت وما هو دائم, بين ما هو زماني وما هو أبعد من زمانها, أي في تركيبها الخاص والعام, في حركتهما وقوانين هذه الحركة وتبدّلها, هو تركيب غير حسابي, إذا صحّ التعبير, ولا يتحدّد بكيفيات ثابتة ومطلقة إلاّ في عموميات تصلح لكل زمان وأرض وشعب).
فإذا كان هذا هو مضمون العملية الفلسفية وهمهّا الأساسي بحيث تكون نشاطاً إنسانياً محموماً ومفهوماً, فيسهل الحديث حينئذٍ عن إرتباطها بالأدب والفن والجمال والرؤى الجمالية الأخرى , إذْ إنّ الأدب أو الفن في حقيقتهما هما عبارة عن التجربة الإنسانية المعاشة في الواقع أو في الخيال أو الذهن أو الشعور منقولةً إلينا عن طريق آليات جمالية تعبيرية أو تصويرية.
فالأدب والفنّ, نصّاً شعرياً أو قصصياً أو مسرحياً أو عملاً أدبياً أو فنياً آخر أو لوحةً أو غير ذلك, هما الحدث أو الفكر بشكل جمالي إيحائي تخييلي, فهي تجربة جمالية بعد تجربة واقعية, ولذا تكون العلاقة بينهما أي علاقة الأدب والفن بالواقع والحياة والمجتمع علاقة وطيدة تفاعلية جدلية...
وهما فعّاليتان جماليتان إرتفعتا عن مواضعات العادة, وإخترقتا المجال التقليدي للتعبير إلى حيث التخييل والسحر والجمال وتحويل الواقع إلى(لا واقع) , لكن يبقى الواقع هو مادة الأدب والفن وركيزتهما الأساسية...
أمّا علاقة الفن والأدب بالأفكار فهي تتمثل بعملية وعي الأدب للواقع, فإنّه أي الأدب أو الفن حينما ينقل لنا التجربة بجمالية متفردة وخصيصة إبداعية ساحرة,في الحقيقة ينقل لنا وعيه المرشح للظاهرة أو الحدث الذي جرى على سطح الواقع.
وهذا الوعي المترشح من التجربة الواقعية والجمالية أي من خلال مرحلتي الإبداع, هو عملية التفكير التي يبديها الأديب أو الفنان من خلال نتاجه وعمله, فالشاعر والقاص والرسام والناقد والمسرحي هم مفكرون لكن بطريقة جمالية, يتركون للإبداع لحظته الناطقة دون أن يتقيدّوا بلون معرفي معين أو نمط تفكيري خاص, مع الاتفاق على ضرورة الهدف والغاية وأصالتهما.
وعوداً على بدء , نتساءل ما هو إرتباط الأدب والفن والجمال بالفلسفة؟
ولا أعتقد أنّ الجواب بنفس اليسر والسهولة التي نجيب بها عن علاقة هذه الثلاثة بالأفكار عموماً, فإننا معنيون بميدان أكثر خصوصية, ألا وهو تداخل الفلسفة ـ بما هي نمط تفكيري خاص ونشاط إنساني يعقلن عملية التفكير ومنهجها الذي يؤسس قواعد العلم الأكثر عمومية وشمولية ـ بالأدب ـ بما هو واقع وفكر منقول إلينا جمالياً وإبداعياً ـ.
وتتضح الإجابة عن التساؤل الآنف حينما نلتفت إلى أنّ النظرة إلى الجمال هي نظرة فلسفية, والصفة الأساسية التي يمتاز بها الشاعر ـ عند غويو ـ في جوهرها هي الصفة الأساسية التي يمتاز بها الفيلسوف. فما يلهم الأديب والفنان هو إحساسه العميق بالأشياء وقدرته على إبداع نص جميل يدعونا لمعايشتها معه ثانيةً على الورق, وعملية الإحساس العميق بالأشياء وطبيعة النظرة تجاه الظواهر والأحداث والأفكار بحيث يكون للمبدع رأيه الجمالي الخاص بها كلّها, هي نوع من التفكير الفلسفي دون أن يعني هذا ضرورة إنسحاب أدوات الفلسفة ومفرداتها وتقنياتها ومناهجها إلى العملية الإبداعية هذه .
فالأديب والفنان ـ بكلمة ـ لا يمارسان تفكيراً فلسفياً, لكنهما يبديان وعياً فلسفياً بالأشياء والأحداث والظواهر. وإذا كان الأدب أو الفن هما وعي الواقع جمالياً, فإنّ الأدب الفلسفي هو وعي ذلك الوعي, أي وعي مركّب. فهي عملية واحدة يرتبط فيها الوعي الفلسفي بالوعي الجمالي.
هذا بالإضافة إلى كون الحكمة بشكلها المعاصر تستدعي وضع مناهج وفلسفات ورؤى لتطبيق أنماط التطلّع نحو الكمال والرقي ومعالجة إشكاليات معقدّة لواقع راهن وعصر معقد متغيّر...ففي نص (إنّ من البيان لسحرا) دلالة واضحة على أنّ الأدب هو تحويل الواقع إلى سحر, خيال, لا واقع, جمال. ليرتفع بذلك عن الكلام العادي ويؤثر في حاسّة المتلقي ويدعوه للتفاعل مع المضمون الذي يطرحه النصّ, فإن كان المضمون فكرةً ملتزمة عن الحياة أو الحقيقة أو الوجود أو الكون أو شيء آخر, فإنه سيتخذ العمل الإبداعي والصناعة الجمالية النصيّة شكل الفلسفة المسمّاة بالمقطع الآخر بـ(الحكمة).
لكن الأدب وحتى الفلسفة اتجاهات ومناهج وأنماط تفكيرية مختلفة, فيما النصّ النبوي الشريف يشير إلى أنّ افضل هذه الإتجاهات هو السحر المنطوي على الحكمة, أي العملية الإبداعية أو العمل الأدبي والفنّي المرتبط بفلسفة الحقيقة والحقّ (الحكمة)..و(من البيان), وليس كلّ الشعر وكل البيان, هو عملية أدبية فلسفية حِكمية مجدية.
والآن لقد أصبحت العواطف والمشاعر ـ مع تقدمّ الحياة وتعمقّها ـ مشبعة بالأفكار, وأضحت بذلك أكثر عقلية. وذلك لأمر بالغ العمق في علاقة الأدب بالفلسفة. هي الخلفية القائمة فعلاً دون أن يرتبط ذلك بإدراكنا ضرورة..وفي الفنون والآداب العربية والإسلامية, ما يشير إلى هذا الترابط الجدلي بين الآداب والفلسفة, والدور الحاسم الذي تمثلّه التغيرات والتحوّلات التأريخية في مجالات الدين والسياسة والإقتصاد والكلام, في مجمل البناء الأدبي والفنّي وأشكالها مضموناً وهيئةً ومادةً..وهذا ما يتطلب إدخال منهجيات الكتابة الحديثة وقراءتها وآليات التعبير الحديثة في العملية الابداعية ..

قصيدة: العطش الأخير لأورك


عطشى البلاد..تضيئها أحلامهـــــا ويهشّ في وجه الحصاد غمامهــا
هربت اليك بجرحها.. مهزومـــــة من نزفها.. حجرية أعوامهـــا
وغفا على رمشيك عرس للنخيـــــــــل فرفّ عند ظمى الفرات حمامهـا
وافتك بالطوفان تسأل ظلّهــــــا: أحقيقة ما تدّعي أوهامهــــا ؟
هل أنت قهوتها التي ما خبّئـــــت وطناً سواه.. وحدقتاك مدامهـا ؟
أو أنت طعم هديلها اغفى علــــى شفة الجراح.. فخانها إلهامهــا ؟
أو أنت بستان البنفسج والكـــروم تزخرفت بظلاله أيامهــــا ؟
أو أنت زهو الأرض تستبق الصغــا ر الى الحقول مواسماً أقدامهـــا ؟
ام انت خشخة السلاح وشهقة البـارود ان خفقت ندى اعلامهــــا ؟
سالتك: أين قوافلي؟محمــــــومة تغزو الشموس هوىً، فيرفع هامها !
من أنت حتى تستحيل مدائنـــــاً للنار،يغرق باللهيب رغامهـــا ؟
سحب الشظايا كيفمــــا روّضتها في ذاتك اللوعى، فأنت ركامهـا !
ماذا؟ أأنت مدىً يعانق جرحهــــا فيخرّ في دامي الصهيل حطامهـا ؟
لا فجر الا ان تؤذّن خلفهــــــا ويقيم مأدبة الشعور أنامهـــا
****
عطشى البلاد ..تنثّ في وهج الضحى ذهباً،وتشهق بالردى أنسامهــا
يحنو علينا همسها-زمن الجحــــود- كأن صمت العاشقين كلامهــا !
من ألف خطوة فاتح نديانــــــة بدم المخاض، تخطّنا أقلامهــا
وبوجهنا الطينيّ شعّت ضحكـــــة عذراء ، يركض بالشموخ سلامها
السومريين الألى ما عانقـــــــوا غير الدلال، وللصعاب كرامهـا
والسومرية ما شكت جرحاً لغــــيـــــر الماء، تغسل وجهه آلامهــــا
ماذا دهاها اليوم تعثر بالشظـــــى مدناً تعيث بعشبها ألغامهـــا
وتبعثر الألواح فوق مذابح الــــــرؤيـــا , فتلك جنائز أحلامهـــــا
وتكبّل القمر الحزين فجيعــــــة خرساء،يسكر بالظلام ظلامهـا
وبلادها للعابثين معابــــــــد يفتي بذبح الياسمين إمامهـــا!
فإلى مَ تستجدي سنابل حقلهـــــا ضحكاً، ويهرع لليباب نيامهـا
نادتكِ فانتفضي يجبّنْ غولهــــــا وثبي لبحركِ تنهدمْ أصنامهــا
أو فاطعمي الرؤيا صغاركِ تبتئــــسْ نُذُرُ الردى، فالوعي نعْمَ طعامها
****
عطشى بلادك.. تستغيث رقابهــــا بخناجرٍ طافت بها أرحامهــا
لم تجن شيئاً.. أرضعتك مياههــــا وحنى عليك بكبرياء فطامهــا
يا طفل هاجر .. لقنتك بشوطهـــا أن الحضارة في يديك زمامهــا
أتؤوب للصحراء، كفّك موحــش عطش الرمال وشوكه يستامهـا
وتدوس أحذية الجنود ملامحــــاً سمراً، وتركل حلمها أقدامهــا
وسياسة التوحيد فينا زهـــــرة للآن ما فُتقت هوى أكمامهــا
يا أيّها الولد المعتّق في لظـــــىً شبحت على وجع السراة ضرامهـا
شدّ الرحال لكلّ فجر ضاحـــك واغزلْ خيوط الشمس.. أنت نظامها

قصيدة : احتفالية النجوم والحرائق


في اندلاع الحرائق
آخيت عينيك
رحت افتش في لون رمشيها
عن ظلال
وحكاية من الامس ، مشمسة اللون ،
وزعها العاشقون هنا ، في محطاتهم ،
ذكريات جنون !

أنت خبئت بين الشرايين
نبضة عطر
وحبة قمح
فكيف اشاطر عينيك لونيهما !
كيف آوي الى شرفتيك
وهذه القصائد تمطرني
برذاذ عواصفها الميتة !


قبل أن التقي بالغمامة
كنت الحياة التي أيقضت جثتي
نفضت عن ملامحها
كل شيء
ينكرها في احتفال النجوم
وحين التقيت الغمامة
كنت جنازة وردٍٍ
يطوف بها الاصدقاء!
ايه عينيك
آخيت لونيها فكبرت ......
كبرت ....
كبرت .....
وأولمت نفسي لأعقد عرسا من الضحكات
بيوم القطاف
ولكنني ...
قد رجعت
سلالي مملؤة بالفراغ الجميل !
ورجعت اغني :

أنا ما زلت في المنافي اغنيك ....وقيثارتي الرماد الجـريحُ
لم ازل ياليلاي طفلا يناغيـه على البعد.. صوتك المملوحُ
لم يزل يوقد الهوى في عروقي .....فاحملينـي لدارها ياريحُ
واصلبيني على المسافات اني طائر في اشتياقها مذبوحُ

وهكذا ...
عشت عمرا من الانطفاء
بلا دمعة ساخنة !
هكذا...
حاصرتني الحرائق
حين تأهّبتُ
صممتُ ان استحيل الى دمعة
فوق خد اليتيم!
ورجعت اغني :

أورق النجم فالحكايا اشتهاءُ ... يتوارى في ظلها الفقـراءُ
ويعــود الصغار من رحلة النهر ......يحيى رؤاهم الانبيـاءُ
سومريٌ نجيمهم .... أبدي النخل يعيــا برمشه الانطفاءُ
الشناشيل حلمهم...والحكايا أبـداً في عرائش اللوزِ مــاءُ
ذبحتهم كل السكاكين فيما.. ..دهشة الكل أنهم أحياءُ!!


وحياتي التي كنت خبئتُها
في العرائش
عادت لتصحو مع الفجر
توقد كل القناديل في الكلمات
لأنثرها في احتفال النجوم ...

ورجعت اغني :
(للشمس دين ولي في عشقها ديني..نحن احتراقان من خوف وتطمينِ
نحن اغتراب الأماني عن توجسها......مثل النوارس في أطراف تشرينِ
رفّ الضحى بين جفنيها فكحّلها.........برعشة من هوىً هيمان مجنونِ
وحدي وتشتعل الأزمان في حدقي...غاباً من الخوف مهموم العراجينِ
وحدي وصوتك يطويني وأنشره...وجداً وأسقيه من روحي ويضميني)

الخميس، 14 مايو 2009

التغيرات السياسية لتنظيم القاعدة في العراق

ان من المسلم به عدم وجود منهج واحد لكل مجتمع فالتغير وعدم التماثل بين الافكار والمناهج الحياتية ينتج افكاراً وإتجاهات متعددة ، ولفكرة واحدة احيانا، فمن أسس فكره ومنهجه على قسر الآخرين لإتباع فكره ومنهجه لا بدّ ان نتوقع حدوث التناقض مع بيئة القسر و الضغط داخلها ، الأمران اللذان سيولّدان الانفجار والرفض فيما بعد لأصحاب المنهج القسري والخطاب أحادي النظرة..
وهكذا فان القوى المتصارعة التي تطمح الى السيطرة على العالم الآن – حسب آلفن توفلر – والمعارك المتزايدة العنف التي تشكل موضوع تحول السلطة ينحسر فيها تأثير عاملي القوة والمال ليبرز فيها تأثير عامل المعرفة ، وبعبارة أخرى إن الأخيرة هي التي ستنتج المال والقوة وليس العكس .
وهذا بدوره يخلق نمطاً خاصاً للحياة الاجتماعية ، و يسعى لابراز ذاته ووجوده عبر تمظهرات مختلفة كل حسب طاقته وقدرته ، ففي الوقت الذي كان فيه للدولتين العظميين ادواتهما المعرفية ( اقتصاديا ًوعسكرياً ) والتي تجلت في ( حرب باردة ) او بروز كتلة اوربية او سوق عالمية مشتركة ، تكون للدول والشعوب في العالم الثالث المسماة بالنامية ، أدوات معينة تتفاوت في مرجعيتها الثقافية والسياسية ، تنطوي ضمنها تيارات العنف والتطرف والارهاب ظناً منها بان هذه الادوات هي اللافتة الوحيدة لمجابهة القوى المتصارعة اقتصادياً وعسكرياً ومعرفياً ، كما تنطوي ضمنها تيارات الانفتاح والحداثة والتي تؤمن بالحوار والعمل السياسي والكدح الاجتماعي والجدل الفكري وعياً منها بان هذه الأدوات انجع في الحل وأعمق في الطرح والتناول واكثر تأثيراً في عالم اليوم .
وهذا بطبيعة الحال يخلق ردة فعل نفسية لدى المنتسبين الى الهوية الاسلامية فيعبّر كل عن تذمره بما يتلاءم مع وعيه وثقافته ، فمنهم من يناهض ذلك سياسياً ومنهم من يناهضه اعلامياً ومنهم من يجابهه بقوة السلاح ..والأخير قد ينتهج المجابهة بشكلها العلمي الواعي المبرمج فيدعى بالـ ( مقاومة ) المستندة الى اسس واصول وثوابت في العمل والموقف والحركة والسلوك ، ومنهم من يشتطّ في ذلك او يلغي الرجوع الى قاموس قيمي معيّن فيسمى بالـ ( ارهابي ) ، لكن تبقى المعارضة السياسية السلمية هي الوجه الحضاري للتعبير عن الرأي..
وبما ان الارهاب مبدأ مرفوض انسانياً واسلامياً وقانونياً ، وان اللاعنف والتسامح والحوار هي السمات والخصائص والمنطلقات الفكرية لكل القوانين والاعرف والاديان السماوية ، فان اغلب الجماعات الاسلامية في العراق احزاباً وتجمعات ومؤسسات ونخبا وجماهيرا انتهجت اسلوب العمل السياسي في اغلب تحركاتها داخل المجتمع ..
وبقيت التكتلات والاحزاب والجماعات الاخرى تتماهى مع تنظيم القاعدة وتستمد منه الشرعية والقوة، الأمر الذي انتج مساحة تدميرية واسعة للبنية التحتية والبشرية في العراق لم يكن نصيب الاحتلال منها –اللافتة التي رفعتها القاعدة في حربها داخل العراق- إلا اليسير من الخسائر.
و ايضا بقيت القيادات الاسلامية في العراق ترفض اتهام جماعتها وحركتها بالعنف لأن الإسلاميين لا يرون ان العنف هو الاسلوب الوحيد للصراع اما العمليات التي تبنتها القاعدة في العراق وغيره من البلاد كالتفجير وخطف الاشخاص والطائرات والاغتيال والتهجير القسري ، فليست من الوسائل المتبناة للحركة الاسلامية العراقية الجديدة والتي تعاملت مع راهن مابعد السقوط بطريقة العمل السياسي وجعلته من اولويات خياراتها، وان خلقت القاعدة في العراق تيارا دينيا مسلحا راح يتذرع بوجود القاعدة واسلوبها التكفيري لممارسة ردود افعال عسكرية متشنجة تشابه في كثير من مقاطعها اعمال القاعدة واساليبها..
ومع هذا فالكيان الاسلامي السياسي في العراق كان يتبنى مفهوم المقاومة منذ امد طويل يصل الى اكثر من ثلاثة عقود من مقارعة الديكتاتور والطغيان ، وكان لا بد له الآن ان يؤسسس لمقاومته السلمية لان عسكرة هذه المقاومة قد انتفت الحاجة اليها في ظل تجربة العراق الجديدة وانتخاب الشعب للحكومة مع تحفظنا على جملة من ممارساتها .
تصادمت هذه الحقيقة مع ما ارتكبه تنظيم القاعدة في العراق من أخطاء كبيرة أدت الى ترويع وقتل الابرياء واخافتهم مما هو خارج خط المواجهة بين طرفي النزاع بين العراقيين والاحتلال، ولاصلة له بالتحرير، فاتخذ الوعي الاسلامي العراقي بأغلب انتماءاته ومناهجه من هذا مستندا قويا لرفض القاعدة وعدم التعاون مع قياداتها فتفتت حواضنها وتعرقل سير اهدافها الستراتيجية المعدة..
أعان على ذلك كثرة الفتاوى والاحكام التي صدرت من علماء العراق بمختلف مذاهبهم وهي تحرم العنف واراقة الدماء وتخريب البنى ، وايضاً المواقف السياسية التي تستعمل الاسلوب النقدي في رصد ممارسات حكوماتها والمعارضة السلمية ، كما انه في الجانب المقابل وفي قراءة سريعة للطبيعة الاجتماعية العراقية و الثقافية تجد تأريخية التعايش والحوار هي الغالبة عليها..
بالاضافة الى ان تنظيم القاعدة في العراق لم تكن تمتلك برنامجا سياسيا واضحا للوصول للسلطة ولا يملك اصحابها غير إعتمادهم على الهجمات الانتحارية والتي يموت القائمون عليها جميعاً ولايشكل قادتهم في الخارج بديلاً للنظام القائم! ..فأخذ الصراع في العراق يدور بين الارهاب في اوجه وفي مختلف تسمياته ومظاهره ومصادره..والجمهور الذي تدعمه الحكومة بوسائلها المادية والمعنوية والاعلامية..
وهذه التغيرات في نظرة المجتمع العراقي الى تنظيم القاعدة لم تقتصر على الواقع السياسي العراقي ، بل تعدّت الى كثير من الدول العربية والاسلامية اذ يقول بحث دولى أجراه مركز "بيو" للأبحاث بواشنطن شمل 47 دولة منها 9 دول إسلامية فضلا عن الأراضي الفلسطينية لاستطلاع الرأى العام إن نسبة المسلمين الذين يرون أن الهجمات الانتحارية ضد المدنيين مبررة استنادا لأسباب دينية ، قد انخفضت بحدة فى الأعوام الخمسة الماضية..جاء ذلك في بحث..وتقول الدراسة إن التأييد للهجمات الانتحارية تراجع في 9 دول إسلامية عما كان عليه الوضع عام 2002 .
إن حرب الشعب العراقي انما هي ضد الإرهاب وهي حرب شرسة كانت الساحة الفعلية والميدانية لتحولات تاريخية وبنيوية قدر للشعب العراقي فيها أن يتحمل تكاليفها وتبعاتها وتضحياتها، ولطالما دعا الشعب العراقي أشقاءه العرب والمسلمين لتحمل دورهم في المسؤولية والتضامن العملي والمعلن والصريح معه في دحر الإرهاب وإجتياح معاقله وتدمير خلاياه!، إلا أن تلك الدعوات لم تجد للأسف صداها الحقيقي وتجاوبها الصريح من تلك الشعوب.
من هنا ولهذه الخريطة من الاسباب والتغيرات لم يكن العراق ارضية دائمية مهيئة لاحتضان استراتيجية تنظيم القاعدة، ونجاح مشروعها فيه، الأمر الذي يفسر اعتراف زعيم القاعدة اسامة بن لادن في شريطه الأخير بأن القاعدة في العراق ارتكبت (أخطاء كبيرة)..
لكن جملة من الملفات العراقية الساخنة لا زالت هي المحك الاصعب امام الحكومة العراقية لاستكمال بناء الدولة وفق معايير الديمقراطية والمجتمع المدني ، وبعيدا عن مفهوم العسكرتاريا ومفهوم الطائفية الذين احتضنا يوما ما ومازالا؛ النشاط القاعدي:
• الابتعاد عن المحاصصة الطائفية والحزبية، من خلال فسح المجال للتكنوقراط العراقي في اخذ فرصته لبناء دولة القانون بالكفاءة والمهنية اللازمين للبناء.
• فسح المجال امام المعارضة والعمل السياسي الناقد لسياسات الدول والحكومات والاحتلال , من اجل اتاحة الفرصة للمطالبة بجدولة الانسحاب والتعبير عن الهوية الفكرية والوطنية الخاصة للجماعات الاسلامية الحقيقية..لفرزها عن الجماعات التي تمارس العنف والارهاب بحجة مقاومة المحتل..
• عزل المقاومة السلمية التي تعتمد الحوارالدبلوماسي والمفاوضات عن الجماعات المسلحة التي تعتمد التصفية الجماعية والاغتيالات والاختطاف ، لان عملية العزل هذه تكون عامل اسناد للترويج للمقاومة السلمية.
• انشاء قاعدة شعبية للمقاومين الذين يبرزون على الواجهة السياسية كمفاوضين وعدتهم الحوار والسجال السياسي، كما انها تخرج المقاومين الحقيقيين للاحتلال من حيّز تهمة التواطؤ مع الاحتلال .
• التوعية بدور الغرب في قطف ثمار الارهاب واستثمارعوامل التطرف في العالم الاسلامي من خلال الكشف المنطقي عن وثائق سياسية موجودة هنا وهناك والعمل على الربط الموضوعي بين الحيثيات الموجودة في هذه الوثائق..ومن ثم تجنب الصدام معه في الوقت الحاضر ما دام متذرعا بلافتة القضاء على الارهاب..

التعددية السياسية والدينية في نموذج الدولة الفيدرالية السويسرية

في عام 1848 ولد الاتحاد السويسري، وظل النظام الكونفدرالي في الأذهان، وظلت التسمية الرسمية لدستور الدولة السويسرية، والذي ما يزال يسمى (الدستور الكونفيدرالي) استصحاباً للاسم القديم الذي بدأ به الاتحاد السويسري .
وأخذ الاتحاد مساراً باتجاه التطور، وفي نهاية القرن تنامت صلاحية الاتحاد باحتكار حق إصدار النقود والحوالات المصرفية، قانون الجزاء، وشرطة مراقبة الحبوب والمواد الغذائية، وكذا قطاع التعليم وفي الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين، شمل التوسع شؤون الملاحة، ضمان الشيخوخة تنظيم سير السيارات والملاحة الجوية، الحياد، نظام معاملة الأجانب، والرسوم والطوابع.
وتعيش في ظل نظامها جماعات متعددة تتعايش فيها بالتوافق، فالسلطات موزّعة ومتآلفة، والامتيازات التي تحتفظ بها الولايات هي أكثر أهمية مما هي عليه في معظم الاتحادات الأخرى، كما أن السلطة تتسم بصفة التداول السلمي المتاح للجميع، إذ إن تدخل المواطنين المباشر معترف به ويمارسه المواطنون بشكل لا يحدث في أي بلد آخر، والسلطة تعتمد أسلوب المشاركة، والجهاز التنفيذي موسع يتبع طريق الإدارة الجماعية، ويشترك على الدوام في أعماله أهم القوى السياسية والأطراف المقيمة في الولايات، بإدارة شؤون الاتحاد.
أنشئت دولة سويسرا الاتحادية أصلاً من أجل تأمين إيجاد سوق مشتركة واحدة، وألغيت الجمارك بين الكانتونات الـ 23، ووضعت تعرفة خارجية مشتركة، وضمنت الجنسية السويسرية حرية تنقل الأشخاص، وحصلت السلطات الاتحادية، علاوة على امتيازاتها في الشؤون الخارجية، والعسكرية والنقدية، على صلاحية توحيد الأوزان والمقاييس وإقامة بنى تحتية وطنية، ومقابل هذه التحفظات، احتفظت الكانتونات بصلاحيات حاسمة في مجال التشريع، في الشؤون المدنية، الجزائية، التجارية، والاجتماعية، وكذلك فيما يتعلق بمهام الشرطة، والعدلية أو التربية.
وفي عام 1874، لم تغير إعادة النظر الشاملة في الدستور نظام الحكم، ولكنها دعمت صلاحيات الدولة الاتحادية، وفي الوقت نفسه أقامت المحكمة الاتحادية، وأقرت قبول الاستفتاء وأسقطت الرأي بالمبادرة الشعبية..وهكذا توطدت أركان ديمقراطية المشاركة مزودة بنظام مبني على التوافق.
والكانتونات تنظّم نفسها وتضع أنظمتها بكل حرية، وفيما يتعلق بهذه النقطة، فإن صلاحياتها الدستورية لا يحددها سوى الالتزام باحترام قواعد الديمقراطية، وبأتباع إجراءات الديمقراطية المباشرة وإقرار دستور إحدى الكانتونات ينبغي أن يكون شعبياً، وإعادة النظر فيه أو تعديله يجب أن تستطيع طلبهما أغلبية من المواطنين.
وفيما يتعلق بتوزيع الصلاحيات بين الكانتونات والكونفدرالية (أي بين الولايات والاتحاد) فإن الدولة الاتحادية ليس لها سوى صلاحية ما ينسب لها من سلطات، وتحتفظ الولايات التي يضمها الاتحاد بصلاحيات الحق العام والمشترك، والصلاحيات غير المسندة للسلطة الاتحادية تعود حكماً للكانتونات، والتي تتمتع بصلاحيات متبقية تسمح لها بالدخول في المجالات العائدة إلى الاتحاد، وعلى هذه الأسس، في سويسرا، كما في الدول الأخرى، يبدو التطور يتجه نحو المركزية.
إن أسلوب الائتلاف والتوافق كالذي تتبعه سويسرا، إنما هو أسلوب نابع من التاريخ والثقافة، ومن الحياة السياسية، قبل أن يدوّن في القواعد والقوانين الدستورية، والنمط السويسري يقضي بجعل البلاد تدار من قبل التحالف بين الأربعة الكبار (الحزب الديمقراطي المسيحي – الحزب الراديكالي الديمقراطي – الحزب الاشتراكي – الاتحاد الديمقراطي الوسط).. إلا أن النظام الانتخابي في سويسرا الذي يعتمد التمثيل النسبي سمح لهذه الأحزاب الأربعة بالتواجد في الهيئة التشريعية السويسرية وتشكيل الحكومة.
وإذا كان نظام الحكم نظام جمعية، فإن الأسلوب ليس كذلك، إذا إن الجمعية الاتحادية لا تجتمع إلا بصورة متقطعة، والمجلس الاتحادي هو الذي يدير فعلياً شؤون البلاد، وأعضاؤه المنتخبون لمدة أربع سنوات، يعاد انتخابهم، ومتوسط بقائهم في السلطة يصل على العشر سنوات، ويلطف مبدأ التوافق بين القوى السياسية، بصورة جدّية، قواعد الاستقلال بين السلطات. والجمعية الاتحادية والمجلس الاتحادي يعملان معاً بكل انسجام.
بعد دراسة النموذج الفيدرالي السويسري، والتعمق فيه يكتشف الباحث بأن قضية الفيدرالية ليست قضية تسميات وهي أوسع من التنظير أو تحديد أطار نظري لشكل الدولة الفيدرالية ، بل يجزم البعض أن النظام الفيدرالي ليس نظاماً قانونياً صرفاً بل هو نظام واقعي يخضع لكثير من التدابير غير المتناسقة في سبيل احتواء نزعة الاستقلال والانفصال وتعزيز مفهوم التعايش السلمي..
واحترام التعددية القومية والدينية هو من أهم مبررات نشوء الاتحاد الفيدرالي السويسري وقد عزز هذا المبدأ بالقرارات القضائية التي صدرت في سويسرا وفي غيرها من الدول الاتحادية، ففي قضية عرضت على القضاء السويسري على اثر نزاع نشأ بين سكان مدينة (Kriessern) التي يسكنها (الغجر) الذين يتحدثون اللغة الرومانتشية و أحد السويسريين الذي انشأ بارا في تلك المنطقة كتب عليه بالايطالية (بار الأصدقاء) وطلب سكان تلك المدينة تغيير اللغة التي كتبت بها اللافتة من اللغة الايطالية إلى اللغة الرومانتشية واصدر القضاء السويسري في تلك القضية قرارا يقضي بضرورة احترام اللغة السائدة في الكانتون وجاء في حيثيات القرار ( إذا تعارضت الحرية الفردية مع الأمن والسلم الاجتماعيين فيجب تقييد الحرية الفردية لمصلحة الأمن والسلم الاجتماعيين ).
التعريف بنموذج التعايش والتعددية واحترام الآخر في سويسرا هو تعريف بواحدة من أهم وأغنى تجارب الحكم الديموقراطي في التاريخ المعاصر هي التجربة السويسرية التي يمتد عمرها إلى سبعة قرون خلت حيث تأسس أول اتحاد سويسري سنة 1291 بين ثلاث دويلات "ولايات / محافظات " انضمت إليها فيما بعد خمس أخرى .
المهم هو استخلاص العبر والدروس من تجربة قادمة من مجتمع متنوع لغويا وقوميا وطائفيا ودينيا ، مجتمع جعل من هذا التنوع مصدرا للثراء والإخصاب الحضاري والاستقرار السياسي والتقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي بعد أن كان مصدرَ شرورٍ وحروبٍ أهلية وإقليمية واضطرابات كثيرة سفك السويسريون خلالها دماء بعضهم البعض ثم انتهى هذا الطور من تاريخهم بقيام دولة اتحادية راقية وحكم قائم على الديموقراطية المباشرة أو ديموقراطية القاعدة كما تسمى أحيانا .
إن هذه الحيثيات المتعلقة بواقع ومواصفات التجربة السويسرية تجعل منها مدرسة ومختبرا تاريخيا جيدا لجميع الشعوب والمجتمعات التعددية وذات النسيج المجتمعي المتنوع قوميا ولغويا ودينيا وطائفيا والطامحة إلى حل مشاكلها سلميا وعبر الحوار والمصالحة والتجريب والتسامح وغير ذلك من تقاليد وأساليب إيجابية أرستها تجارب الشعوب.

مظاهر التفرقة بين الإرهاب والمقاومة

تعريف المقاومة
المقاومة هي كل قولٍِ أو فعلٍ مضاد للاستعمار والهيمنة الاجنبية والاستبداد , سواء كانت بطريق سلمي واتباع الاصول القانونية والديمقراطية أوعن طريق الكفاح المسلح لإرجاع الارض وسلامة العرض وكف الاذى عن النفس والوطن , شريطة عدم جعل الابرياء والمدنيين وقوداً لأي عمل عسكري مسلح...وتكون المقاومة ذات مشروع حضاري إنقاذي للذات او المجتمع.
ونشأت في هذا السياق عقائد وأفكار، يرى حنفي أفضلها تلك التي تجعل العمل من الإيمان، ويرى أيضا أن المقاومة لا تقوم إلا على مفهوم الجبهة الوطنية المتحدة، والجمع بين الفرق، والتعددية على مستوى النظر، والواحدية على مستوى العمل، وأن ثقافة المقاومة تبدأ من الإنسان والمجتمع والأرض والدولة، وتقتضي ثقافة المقاومة فك الارتباط بين أيديولوجية السلطة وأيديولوجية الطاعة. فالمقاومة حركة تلقائية في التاريخ تبدأ من رفض العبودية، كما أنها سابقة على النص.
أن الثقافة عنصر واحد من عناصر الحضارة. فالثقافة تقتصر على العادات والتقاليد والفنون ومنتجات الإبداع الفكري، ولكن بإمكان الدولة الوصول إلى مستوى حضاري دون تحقيق إنجازات ثقافية كبيرة ،ويناقش المقولة السائدة عن اقتراب انهيار الولايات المتحدة بسبب التراجع الأخلاقي والتفكك الأسري وهيمنة الجوانب المادية على الحياة. ومن ثم فإن حيوية الثقافة تتغير وتتناسب مع معطيات العصر ومتطلباته، لأن تغير الظروف والموارد يغيرالثقافات، وبطبيعة الحال فإن ثقافة المقاومة تتغير وتتبدل حسب هذه التحولات المحيطة. إننا بحاجة إلى هوية جديدة تعترف بالتنوع الثقافي والاجتماعي وتعترف بشرعية الاختلاف في إطار تنمية ثقافية من أجل التعايش بسلام في المجتمع الواحد.
اذا ممارسة ثقافة التغيير بدلا من ثقافة التبرير، وإلى التنمية الثقافية التي تساعد على التواصل العقلاني بين الأجيال المتعاقبة، وضرورة استعادة العقول العربية المهاجرة إلى الغرب، والمشاركة في العمل على إنشاء ثقافة كونية أكثر إنسانية تحافظ على كل ما هو إيجابي في الثقافات الوطنية.وقد تعثر المشروع النهضوي لأنه لم يؤسس على التراث العقلاني، وكان أيضا لممارسات القمع السلطوية أثر سلبي كبير على ثقافة التغيير..
العناصر المميزة للمقاومة
ومن فقهاء القانون من وضع عناصر معينة مميزة لحركات التحرر الوطني من غيرها من الحركات الانفصالية او الإرهابية ,ومن هذه العناصر:
1-ان الهدف من حركات التحرير الوطني هو تحقيق التحرر .
2- وجود الاراضي الداخلية او الخارجية التي تسمح للحركات ان تباشر عملياتها العسكرية بمعنى ان توجد مناطق محررة تقيم عليها مؤسساتها الادارية والتعليمية والعسكرية .
3- ان يتعاطف الشعب مع حركات التحرير والمقاومة وتلقى دعما وتأيدا واسعا من المواطنين .
4- يجب ان تتسم اهداف حركات التحرير بدافع وطني يتجاوب ويتلائم مع المصلحة الوطنية العليا وهوما يميز حركات التحرير عن الاعمال التي تستهدف مصلحة خاصة لبعض الفئات من المواطنين أو تنافس أو تناحر للسيطرة على السلطة أو فرض فلسفة معينة . أو الحرب من اجل انفصال اقليم معين أو جزء من الدولة.

بين الإرهاب والمقاومة المشروعة
ومن المهم تمييز نشاطات الكفاح المسلح عن الجرائم الارهابية والحق في المقاومة وتقرير لمصير وفقأ لمبادئ القانون الدولي غير أن ذلك لايسمح مطلقأ لتفسير الانتهاكات التي تقوم بها بعض الجماعات على اعتبار انها اعمال مقاومة لمخالفتها للمستقر في الاتفاقات والمواثيق الدولية من شروط الاعمال الكفاح المسلح خاصه ما يتعلق بأحترام تقاليد الحروب وأعرافها وعدم الاعتداء على المدنيين ومن لايشاركون مباشرا أو يكفون عن الاشتراك في العمليات الحربية .
يختلف الإرهاب عن أعمال المقاومة المشروعة من عدة جوانب يمكن إدراج أهمها على الشكل التالي :
1- إن المقاومة المشروعة لها طبيعة عسكرية شعبية وغطاء شرعي , في حين أن الإرهاب رغم إمكانية أخذه للطابع العسكري, إلا أنه غير شعبي ولا يكتسب الشرعية المطلوبة المتفق عليها...أي أن عملياته لا تحظى بتأييد شعبي حتى لو كان هناك تعاطف مع القضية التي تكافح من أجلها جماعته.
2- كما أن المقاومة تتصف بالوطنية , وهذا الوصف هو يتعلق بالإقليمية في ممارسة هذه الأعمال أي أنها تباشر داخل إقليم الدولة المحتلة , في حين أن معظم العمليات الإرهابية تتصف بالدولية.
3- الإرهاب هو هدف غير واضح وغير محدد, ثم يستوي أن ينال الإرهابي هدفا مدنيا أو عسكري, فهو في نهاية المطاف عمل انتقامي غير مشروع موجه لوجهة غير معلومة وغير محددة , أما هدف المقاومة المشروعة أو الكفاح المسلح فهو عموما الأمكنة والتقنيات العسكرية.
4- مؤدى ذلك أن عمليات المقاومة تهدف إلى إزالة الاحتلال أو الاستعمار الذي تفرضه إحدى الدول أو الشعوب على غيرها بعد تحقق مفهوم الاحتلال بشكل واضح وبدون بروتوكولات او معاهدات بين الحكومات المحلية والدول الاجنبية فيما هدف العمليات الإرهابية , يظل غالبا غير معلن يرتبط بالحصول على السلطة .
5- تعتبر عمليات المقاومة اذا ما توفرت كافة شروطها التي تقوم بها حركات التحرر الوطني ضد المحتل أوالمستعمر-بعد وضوح تحقق مفهوم الاحتلال وبدون اذن سلطات ذلك البلد- عمليات مشروعة لأنها تمارس بحق قانوني دولي مشروع وهو حق الشعوب غير قابل لتصرف في تقرير المصير والاستقلال، في حين أن الإرهاب الدولي لا تعترف بمشروعيته المواثيق الدولية , بل تدينه بجميع أشكاله أي كان مرتكبها وأيا كانت صفته.
6- ويمكن اضافة فرق سادس يتمثل بكون المقاومة لها سعة في المفهوم وبدائل في الاساليب وتنوع في الممارسات تشمل حتى السلمية ..بينما الارهاب ليس له الا خيار واحد هو العنف .
ومن خلال ما تقدم يظهر بجلاء المشروعية الأخلاقية والقانونية لكفاح الشعوب فعمل المقاومة المشروع هو ذلك العمل الذي يستند إلى أحكام القانون الدولي (خاصة اتفاقيتي جنيف لعام 1949 والبروتوكولين الإضافيين الملحقين بهما ولا يمتد إلى الأنشطة التي تمارسها بعض المجموعات التي تقوم فلسفتها على ممارسة الأعمال الإرهابية ضد المدنيين من نساء وأطفال ومواطنين أبرياء عزل, ومن خطف لطائرات وأخذ الرهائن , فالعنف الذي يأخذ مثل هذه الصيغ التي تتنافى مع الأخلاقيات الإنسانية, لا يمكن أن يعتبر مطلقا عملا مشروعا وشرعيا ولا أخلاقيا, بحيث لا يمكننا تبريره مهما كان وأيا كانت دوافعه , فالغاية لا تبرر الوسيلة والعمل غير الإنساني لا بد من إدانته وإن كانت بواعثه.

التحولات العصرية وقيم الحوار

فيما تتعقد أشكال الحياة من حولنا وتتراكم الخبرة المعرفية والعلمية فوق مظاهر الحياة في عالمنا حتى غزت المنتجات كلّ بيت وكلّ شعب وكل بقعة من الأرض بل وحتى غرف النوم!
فنحن اليوم نعيش في عالم متحوّل ملتهب بالاكتشافات والتقليعات الثقافية والاجتماعية، منبهر بثقافة المشاهدة ومنتجات العلم الحديث، مسكون بالصراع أو الحوار، متطلّع للمعرفة والانفتاح...
والقضيّة خطرة جداً، اذ لا يمكن العيش خارج العصر، كما لا يمكن التحوّل إلى جزء من الأزمة ذاتها. وكثيرٌ من أولئك الغارقين في متاهات الحياة العصرية، والمنفعلين بثقافة منتجاتها التي تسرّبها تلك الدول المنتجة لها، هم قلقون حائرون مفتونون، ليس لهم هدف حقيقي يُستقى من روح المقاصد الانسانية وطبيعة تفكير الانسان ..
فالقضيّة تحتاج الى مواجهة، أي نقد وتحليل وتأطير وتوظيف وتصريف وتوجيه وحوار، وإلاّ فهي تفضي إلى السقوط او الخروج من العصر..
والتحولات الراهنة لاتحث على العمل للدنيا فقط ولا على الفعل الميكانيكي المحسوم من حيث نتائجه، بل يؤكد على نوعية خاصة من العمل لها القدرة على إستشراف ما يأتي من الزمان والتحكم به كما لو كان الإنسان خالداً..في سياق عملية جادة وواعية لجلب انتباه الإنسان للزمن الذي يحتضن حركته. وفيما يمر منه وما يأتي يتشكل وعي الإنسان وبناؤه الحضاري وفعله الاجتماعي.
من هنا يتحتم انتهازه كمادة للإبداع الإنساني (أما الطريقة أو الوسيلة فهي تجربة ذات دلالة أي تخمين الشكل أو العمل الذي يحمل الفكرة والبدء بعد ذلك في البحث عن فكرة داخل مُعطية ملموسة).
هذا على صعيد الواقع أمّا على الصعيد النفسي؛ فحينما نقرّر أنّ النفس مصدر الإشعاع الحضاري فكراً وسلوكاً ومنهجاً وموقفاً وإبداعاً، تظلّ هي نقطة الانطلاقة وبؤرة أيّة صيرورة حضارية...
فتعقّد أشكال الحياة وتعقدها المستقبلي الأشد، لا يلغي دور النفس وفاعليتها كبؤرة لصنع القرار وتنضيج المواقف الكبار التي تخلق الحدث وتطوّر الفكر، ليتشيّد المجتمع المنشود على أساس متين من الفكر والسلوك..
إنّ التكنولوجيا مهمّا أفرزت من نتاج يبقى مفصولاً عن الوعي الذي لا تنتجه المصانع، بل هو متمركز في الإرادة الذاتية للإنسان ومحركاتها النفسية والآيديولوجية، دون أن تستبطن هذه النظرة ـ بالضرورة ـ أدلجة المواقف وتأطير الإبداع...
انّها نظرة تمازج بين وعي العصر ومواجهته ثقافياً وحضارياً وبين ضرورة الالتزام بمبدأ الموجّهات الشرعية الكفوءة، فالمتعامل مع أيّ تقنية حديثة والباحث أو العالم في أيّ مجال معاصر، لا زال مشمولاً بالنص القرآني ومنضوياً في قصدية الخطاب المرسل الى الأمة .
اما الآليات والوسائل أمر متروك للممارس..المهم هو التحرك..لأن الذي يأتي من الزمان هو الذي تناله حصة الاستعداد، أما ما مضى منه فلن يعود بنفسه، بل يصلح لأخذ العبرة واكتشاف القيمة منه باعتبار أن مادة الصراع نفسها تعود بأشكال مختلفة في المستقبل، الأمر الذي يدعونا للاستعداد من أجل صراع قادم ونهضة جديدة في الزمن الآتي.
والزمن القادم تحكمه سنن مضطردة ينبغي الوعي بها وبكيفية التعامل معها والإستعداد لها، وكل من بلغ مرحلة الوعي المنشودة، فهو بشكل تلقائي يتحرك للقائها ويستعد لمفاجآتها.
ينبغي التأكيد باستمرار على قيمة المستقبل وافراز نتائجه بالتصور والحدس والعملية العقلية المسماة في نصوصه بـ(النظر) أو (البصيرة)، ليعلم الإنسان من الآن كيف يواجه الأمور القادمة ويوجهها باتجاه مصالحه العليا ومبادئه الأخلاقية، وإلاّ تخلف الإنسان عن زمنه القادم لغفلته عنه وجهله بمساره الذي يلوح في الأفق.
وفيما يدعو الجانب القيمي بفهمه العقلاني إلى استنطاق الأمور القادمة بما يتمتع به الإنسان من قوة عقلية حاضرة، فهو مكلف من الآن للنظر فيها وتدارك موقفه الصحيح حينها؛ واذا كانت الدراسات المستقبلية المعاصرة تؤكد على ثلاثة مستويات كبرى لعوامل التطور:
1ـ تيار التطور الذي يسير بتاثير عوامل لها استطالاتها بحيث يمكن توقع نتائجها إلى حد معين.
2ـ الأحداث التي تأتي ولادتها نتيجة إقترانات مناسبة في ظروف غير مناسبة فتتدخل بصورة سيئة في نتائج التوقعات الدقيقة والتي طرحت مسبقاً قبل وقت طويل.
3ـ العبقرية والإرادة الإنسانية، والتي تشكل عاملاً مستقلاً يستطيع التأثير بقدر معين سواء على مسيرة التطور أو على الأحداث ذاتها .
من أجل التنبؤ بأنظمة المستقبل والتخطيط للتعامل معها أو استباق مناهجها المثمرة على صعيد الواقع، فإن الواقع يرصد هذه المستويات الثلاثة الكبرى للتطور؛ فيجعل تيار التطور فيما يرتج من الأمور على الإنسان، والعبقرية والإرادة الإنسانية في تدارك النفس والنظر لها.
لكنه يتجاوز ذلك المستوى الثالث أي كون الأحداث مما تتدخل بصورة سيئة في نتائج التوقعات الدقيقة حتى وان طرحت قبل وقت طويل، لأنه يخبر عن قطع ويقين بصورة مواجهة الأحداث ونتائجها، ليس لأنه يرى ماوراء الواقع ويُخبر عن الغيب... بل لأنه بصدد تأسيس قاعدة كلية في مجال المستقبليات وفي حقلها الاجتماعي بالتحديد.
فيما ينبغي أن يختط المنهج قواعد عامة للتعامل الاجتماعي والثقافي سواءً للمجتمع ذاته أو للتعامل مع مستجدات العصر الفكرية والتكنولوجية، ويترك الغوص في الوسائل والآليات العملية والإحصائية المتغيرة للمشتغلين بها. وعليه تكون نتائجه المتوقعة والمنهج الذي يختطه للتعامل مع المستقبل، نتائج ومناهج ثابتة تقريباً، وإن كانت مفاصل الواقع وأحداثه ومستجداته متحوله ومتغيرة..
انّ مواجهة الغزو الثقافي هي عبارة عن كيفية التعامل مع واقع متطور فكرياً وتكنولوجياً يزحف إلى عمق بلادنا وداخل بيوتنا بذريعة التمدين وحجّة التطوير. وهي ذريعة تحمل وجهين: أحدهما صحيح وعلمي وواقعي وضروري، والآخر باطل سياسي استعماري يعكس إرادة هيمنة الدول (المتقدمة) على باقي حضارات الشعوب ومسخ هوّيتها...
فما كان صحيحاً وعلمياً وواقعياً وضرورياً، يؤشّر ضرورة الانفتاح عليه ولزوم التعاطي معه . وما كان غير ذلك فيؤشّر ضرورة مقاطعته وتجنّب التعاطي معه .

المنشأ السياسي للانقسامات والصراعات في العراق

ليس العيب في أن تعتمد أنظمة سياسية معينة إذا ما كانت خلفية ذلك إجرائية ، تفرضها شروط تمذهب مجتمع أو انتماء أغلبيته لذلك المذهب مع الحفاظ على الوضع مفتوحا تجاه المختلفين ، وأيضا في تأمين حقوق الأقليات في إطار سياسة وطنية متسامحة ومنفتحة على الآخر.
والأمر يصبح تخريبيا مدمرا حين توظف المذهبية في ممارسة القمع، اذ يصبح الأمر مدعاة للصراع . فيكون الإشكال هنا في السياسة والتدبير لا في اعتماد الأساس الديني أو المذهبي في حدود الأجراءات والأحوال الشخصية.
ان منشأ الصراع اذن هو سياسي.. وهنا تصبح المسألة رهينة للإرادة السياسية، وهذا ما لم تظهر معالمه حتي اليوم، فسياساتنا تتخبط في أزمة بنيوية وهي غير قادرة على تقديم رؤية أو مشروع لحل مشكلات خدماتية لجماهيرها .
وإذا كانت السياسة تلعب دورا سلبيا في الصراع المذهبي ، فحتما سيكون الاقتصاد والإعلام والثقافة وكل ما يقوم الدولة، طرفا في هذا الصراع وعامل تكريس وتأبيد لمفاعيله.
يواجه الفكر السياسي العراقي ، معضلات مفهومية تخص البناء الاجتماعي ، وما فيه من أحداث ووقائع ومشكلات بنائية، متنوعة متعدِّدة في مضامينها وأسبابها الاجتماعية.
ولم يتعامل التعامل الكافي مع الظواهر البنائية السليمة أو تلك التي تستوفي شروطها في مستوياتها الوطنية.. وكما هي بين الناس في حياتهم اليومية.. وفي نحل المعاش ، على حد قول ابن خلدون.
بمعنى أنه لم يلتفت كثيراً الى الظاهرة المجتمعية التي تفعل فعلها في إثارة العداوة والكره والانشقاق والانقسام داخل المجتمع، فتزيده انشقاقاً وعداءً كما أنه لم يُوَظِّف العلم الاجتماعي والانثروبولوجيا في دراسة وتحليل وتفسير هذه الظواهر وفعلها في الحياة العربية على ضوء حقائقها، مثل ظاهرة الجهوية والقَبَليَّة والطائفية والنزعة القطرية، في سياق نزعة الالتحام والانقسام وامتداداتها داخل الأسرة والعائلة والقرية والقبيلة، والحي والمدينة.
ولم يلحظ تأثير ظواهر من قبيل؛
• النفاق بكل مضامينه وأشكاله وألوانه السياسية والاجتماعية.
• وظاهرة الاتباع والمريدين. وظاهرة العداوة وأسبابها وتجلياتها، وما يتمخض عنها من كره وعداوة سياسية واجتماعية.
• وإشاعة الغش بكل مضامينه.
• ثم ظاهرة الاستبداد التي تبدأ في الأسرة وتمر بالعائلة والعشيرة والقبيلة وتصل إلى الأحزاب وتنتهي بالسلطة.
• وظاهرة التغير الثقافي بحيث تعرف ما تخلت عنه الثقافة وما اكتسبت وفعل قيم الماضي وأعرافه على سلوك الفرد والجماعة والمجتمع. وما تأمر به وتنهي عنه.
• ثم مستوى الوحدة والاختلاف والتناقض بين القديم والجديد، وآثاره على ظاهرة الازدواج الثقافي على حد تعبير الدكتور على الوردي.
• وظاهرة الوصولية وتجلياتها في سلوك الناس السياسي، وخاصة داخل الأطر السياسية .
• وظاهرة الوجاهة في القرية والحي والمدينة ، وما لها من محددات ثقافية واجتماعية، وحضورها في شخصية السياسي والعسكري ورجل الفكر. ثم ما بين سلوك الوجيه والسياسي من وحدة وتناقض وافتراق. وما إذا كان الوجيه داخل إطار محدداته الثقافية العائلية - الأهلية، هو الذي يقود السياسي ويجعله على صورته في سلوكه الاجتماعي والسياسي أم العكس هوالصحيح؟
ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا إنَّ تجاهل تلك الظواهر شكلت معلماً واضحاً من معالم الفكر السياسي والحزبي العراقي في بداية تشكيله ولحد الان ، مع أن هناك دراسات أكاديمية سوسيو - انثروبولوجية عن تلك الظواهر، كان بإمكان الأحزاب العراقية ، بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق، الاستفادة منها وقراءتها قراءة حديثة ، من أجل معرفة ما هو مشترك بينها وما هو متنوع.
وأيضاً معرفة أسبابه، على ضوء ما تسميه الانثروبولوجيا السياسية "الخصوصية الوطنية" التي تضفي على هذه الظواهر قسماتها الثقافية وفلكلورها الشعبي. علماً أنَّ الخصوصية الوطنية لا تتنافى أو تتعارض مع بعدها الحزبي في الاساس والمبدأ، لأنَّ الحزبية تساوق الوطنية في بداية تأسيس الاحزاب العراقية وتأريخها كما مر بك في بداية البحث.
وهذا الانقسام الحزبي- المجتمعي ،الذي حصل فيما بعد يحيلنا ووجهاً لوجه إلى دراسة ظاهرة الانقسامات في الأحزاب نفسها مع انها تحمل اهدافا وطنية واحدة. لما لها من آثار سلبية مُدَمِّرة في الحياة العراقية الجديدة، وخاصة على وحدة الشعب العراقي الذي يشكل لازمة للتقدم واستكمال التحرر من التدخل الخارجي، كما حقق التحرر من الاستبداد والدكتاتورية داخليا...
و ظاهرة الانقسام والعداء هي ظاهرة ثقافية بنائية يقوم الاتجاه الوظيفي بالتعامل معها على أساس فكرتي (البناء) و(الوظيفة) اعتماداً على قاعدة منهجية انثروبولوجية ترى: (... أن سمات الثقافة أيا كانت بدائية أم حضرية ليست من الأجزاء المبعثرة. وإنما تقوم مكونات الثقافة بإسنادها إلى وحدة من العناصر الثقافية المتكاملة، التي تتجمع في كل "متكامل" لا تناثر في عناصره أو تباعـد في سماته، بالنــظرة إلى الـثقافة كوحـدة عضوية "Organs Unit" يرتبط كل عنصر فيها بسائر العناصر والأجزاء الأخرى).
غير أنَّ الاتجاه الوظيفي لا بد أن يتضافر مع المنهج الأنثروبولوجي التحليلي الذي يبدأ مهمته التحليلية من خلال قاعدة تقول: إنَّ ظاهرة العداوة ظاهرة ثقافية بنائية موجودة في كل الأقطار العربية، ومستندة إلى تراث ثقافي فيه من قسمات المجتمع الأهلي ما فيه من قيم وأعراف وتقاليد وسنن الضبط الاجتماعي.التي تحسب على المجتمعات الأهلية التي لم تتخذ ما يلزم من تحولات جذرية قاعدية أو تحتية حتى تتحول إلى مجتمعات مدنية.
وبما أنَّ ظاهرة الانقسام وما يتبعها من عداء موجودة في الدول العربية فإنَّ لها تلاوينها ومحدداتها الثقافية التي تٌلَوِّنها بألوان محلية - جهوية وإقليمية وطبقية. ومع ذلك فإنّ ملاحظة الفعل الداخلي لها ملاحظة مباشرة تفيدك بأنَّ ما بين هذه الألوان مستويات من التداخل والتأثير المتبادل، مع الاحزاب والتشكيلات السياسية الموجودة داخل البلاد العربية ومنها العراق، وهذا يجعلك ترى أن هناك الكثير من التوافقات والمشتركات بين التشكيلات السياسية لدول العالم الثالث، في فعل العداوة، أي وظائفها داخل المجتمع الشرقي.
ان كافة أنماط الانقسامات والتحولات والصراعات المتفجرة قيمياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً إنما هي تعابير عن صراع الهوية السياسية للدولة المراد إنتاجها، وهي تجلّي لحرب هويات عرقية وطائفية ومناطقية وجهوية خاصة ، بغية كسب معركة الهوية السياسية للمجتمع والدولة لصالح هذه الهوية الفرعية أو تلك،..
وروح هذه الرابطة الكلية المسماة بالدولة هي الهوية التي تمثل حاصل التمازج والتناغم والإتحاد لعناصر الدولة الأربعة، وكلما تمازجت وتناغمت واتحدت هذه العناصر بعضها ببعض في الوعي والثقافة والتشريع والتطبيق.. كلما قويت الدولة وتجذّرت، من هنا فبقاء الدولة مرتبط بفاعلية الهوية وقدرتها على البقاء والتجدد والتطوّر.
فالمنشأ الحقيقي لهذا الصراع والانقسام هو سياسي بالدرجة الاولى ، ونريد به إنتفاء الشرعية للسلطة السياسية في بلادنا طيلة الفترات الدكتاتورية المتعاقبة ، كونها لم تنبثق من خلال الإرادة والإختيار الحر للأُمّة العراقية ، فأنتج ذلك حالات التسلّط والقهر لتدخل السلطة في صراع مع مجتمعها والمجتمع مع سلطته.
من جهة أُخرى ، فإنَّ:
• احتكارها للدولة والحكم دون أدنى مشاركة سياسية أو شعبية حقيقية .
• استخدامها المفرط للقوة والسحق لمعارضيها .
• فرضها لإيديولوجيتها بالقوة على حساب مقومات الأصالة والتكوين الطبيعي للمجتمع العراقي.
• تقنين الحياة العامة وفق رغباتها وبرامجها السياسية والإقتصادية والمجتمعية.
• تخطيطها وفعلها الدائم في خلق صراعات تحتية بين مكونات المجتمع بين ما هو شيعي وسُنّي وكردي وعربي لضمان سيادتها من خلال منطق فرّق تسُد.
• خلقها للصراعات الخارجية الوهمية وما تُنتجه من مفاسد وكوارث على حساب الإستقرار والأمن والتنمية.
كل ذلك أوجد صرعات متعددة ومعقدة للواقع الداخلي والخارجي للبلاد ..وأنتج أفدح الصراعات الدموية في كيان الأُمّة العراقية والذي ولّد بدوره العديد من حالات الكوارث المُنتجة للصراعات على تنوعها السياسي والإجتماعي والإقتصادي والذي أصاب كياننا العراقي في الداخل والخارج بأفدح الخسائر.
ويمكن أن نُشير فقط إلى التدمير الشامل الذي أنتجته الصراعات العسكرية الخارجية مع دول الجوار والعالم ، وهي جزء من تصدير أزمته إلى الخارج لإحكام الطوق الداخلي ، وجزء من استراتيجية إضعاف وإنهاك المجتمع داخلياً للحيولة دون قيامه ، وجزء من سياسية خلق الأعداء الوهميين لضمان البقاء والنفوذ والتفرد في السلطة والقرار.
إنَّ إشكالية المنشأ السياسي للصراع والانقسام وما ينتج عنها من صراعات وانقسامات نوعية أُخرى تعود أساسا لإشكالية إغتصاب السلطة والتفرد بالقرار والإدارة الرسمية لعموم التجربة السياسية العراقية فيما سبق ، على تنوعاتها دون أدنى مشاركة أو تبادلية أو تداولية في قضايا الحكُم وتسيير الأمور العامة للبلاد ، وهي إشكالية الشرعية والتمثيل الصادق والحر للإرادة الجماهيرية التي بدأت بالانحسار ماأن فسح المجال للارادة العراقية الحرة بعد سقوط النظام الدكتاتوري.

يعتقد البعض أن سقوط النظام الدكتاتوري وانهيار دولته كان فرصة تاريخية للشروع مجددا ببناء دولة عراقية حديثة، تحقق الاندماج المجتمعي وتبني امة/شعبا عراقيا على اساس هوية وطنية مشتركة، تجذر مفهوم المواطنة. لكن قد اجهض مشروع الدولة الحديثة بسبب:
• الانزلاق السريع نحو الهويات الفرعية، من قبل المجموعات التي دخلت الحكم.
• والانزلاق السريع نحو العنف المسلح من قبل الجماعات التي ظنت انها خرجت من لعبة الحكم.
• فضلا عن عوامل داخلية و خارجية اخري.
واقام بدلا منها سلطتين الاولي رسمية، منقسمة عموديا ، الامر الذي تجسد بنظام المحاصصة الطائفية بكل شيء.
والثانية غير رسمية، تعبر عنها الجماعات المسلحة، الارهابية رغم شعار المقاومة الذي ترفعه، في مناطق نفوذها العملي او المفترض.
لكن الحقيقة انه ليس من الصحيح ان نتوقع ان تتفق مفردات كل مكون من المكونات الرئيسية للمجتمع العراقي الثلاثة (الشيعة والسنة والكرد) على خيار واحد بعينه، لسبب اساسي وهو ان كل تكوين من هذه التكوينات لا يمثل جسما متجانسا من حيث المصالح والثقافة والوعي السياسين والانتماء الحزبي.
لقد ساد الانتماء الفرعي (العرقي او الطائفي) بعد سقوط النظام الدكتاتوري لأن الطبيعة القمعية لهذا النظام لم تسمح بالتطور السياسي للمجتمع العراقي ان يواصل حركته باتجاه قيام احزاب وطنية تتجاوز العضوية العرقية او الطائفية، مع وجود استثناءات قليلة برهنت الانتخابات الاخيرة على دورها الثانوي في تشكيل الحياة السياسية العراقية.
أغلب المحاولات البنائية للهوية السياسية قامت على أسس منقطعة عن استحقاق الدولة الوطنية، ومعظم النُخب العراقية في أنماطها السياسية والدينية والثقافية والإقتصادية كانت نخباً مؤدجلة على النقيض من المباديء الوطنية في عمق ثقافتها وقرارها، والأدهى أنها على صعيد الممارسة شكّلت نخبوية جهوية لم تخرج في الأعم الأغلب عن أطر الهويات الفرعية الضيّقة من قبيل العِرق والطائفة والقبيلة والعائلة، ولم تنجح في تأسيس هوية مدنية وطنية تجمع بين أصالة التكوين الذاتي لمكونات المجتمع وبين الإنصهار في الجماعة السياسية الكلية المُشكّلة للدولة.
وأيضاً وفي فعلها الضيق المتأثر بالإنتماء الخاص العرقي والطائفي والسياسي والمناطقي أدّت إلى ترسيخ الهويات المجذرة للإنتماءات والولاءات الضيقة، الأمر الذي أفرز الإنقسام والتصدع والتصارع الوطني بين مدارس وتيارات الوطن الواحد.
ونموذج لذلك تأتي الصراعات الطائفية (بين ما هو شيعي وسُنّي)، والعِرقية (بين ما هو عربي وكُردي وتركماني..) كإنموذج لإستدعاء فعل الذاكرة التأريخية في التعاطي مع واقع الهوية الحديثة.
وكذلك اعتماد سياسات استبدادية في عمق البناء الثقافي والسياسي والحضاري للدولة الحديثة ومحاولة حمل الدولة ومكوناتها على أساس منها، من هنا تم إقحام الدولة في مناهج وخصومات خاطئة أتى على حساب استقرارها وتطوّرها،.. لقد أُريد للدولة العراقية الإمعان في السحق لحقوق الإنسان والجماعات فتصادر المواطنة والحريات، وأُريد لها شرعنة التمايز لتقضي على المعايير الوطنية الشاملة والعادلة والمتكافئة لأبناء الوطن الواحد، وأُريد لها أن تُطحن في رحى الحروب لتطلّق التنمية والتطور والإزدهار. لقد أتلفت هذه المناهج الدولة من الداخل بفعل عوامل الفساد والظلم والجهل والإجترار والسَلبية.
ليست العوامل الخارجية هي من أوجد المادة الأولي للصراع المذهبي والطائفي في العراق. لكن العامل الخارجي يحضر هنا كمحرض وموجه يستغل كل مواقع الضعف في المجتمع لتحقيق استراتيجيا أخري لا علاقة لها بنا كشعب بقدر علاقتها بمصالح وسياسات متعلقة ببلدنا كأرض.
إن خطر العامل الخارجي يتضاعف هنا إذا ما وجد الفراغ السياسي ، أي انعدام تدبير أمثل لأوضاعنا ومشكلاتنا، فالدول الاستعمارية والمهيمنة تعاني هي الأخري من التعددية والطائفية .وهي تحاربنا بجيوش متعددة الأعراق والمذاهب والطوائف والألوان لا توحد بينهم سوي الوطنية وخدمة العلم... ولكنها تستغل ضعفنا وغياب الانفراج السياسي الذي وحده يؤمن الدولة من احتقان المجتمع وتمكين العامل الخارجي من استغلال الورقة الطائفية والمذهبية.
ولا يخلو أيّ مجتمع، مهما كان حجمه، من عوامل انقسام، مثلما تكمن فيه أيضاً عناصر وحدة. إنّهّا سنّة الحياة في الجماعات البشرية، منذ تكوّنها على أشكال تكتّلات عائلية وعشائرية وقبلية وصولاً إلى ما هي عليه الآن من صورة أممٍ وأوطان.
لكن المحطة المهمّة في مسيرة تطوّر الشعوب، هي كيفيّة حدوث التغيير والتحوّل فيها، كما هو السؤال عن طبيعة الانقسامات وأطرافها. أي، هل الانقسام هو على قضايا سياسية؟ اجتماعية واقتصادية؟ أم هو تبعاً لتنوّع ثقافي/أثني، أو ديني/طائفي؟
فكلّ حالة من تلك الحالات لها سماتها التي تنعكس على تحديد ماهيّة الأطراف المتصارعة وأساليبها وأهدافها.
إنّ المشكلة هي ليست في مبدأ وجود انقسامات داخل المجتمعات والأوطان، بل هي في انحراف الانقسامات السياسية والاجتماعية إلى مسارات أخرى تُحوّل الصراع الصحي السليم في المجتمع إلى حالة مرضية مميتة أحياناً، كما يحدث في الصراعات السياسية والطائفية والقبلية.
ان كثيرا من المجتمعات شهدت وما تزال حروباً أهلية على أسس طاثفية وأثنية وقبلية. كذلك مرّت القارّة الأوروبية بهذه المرحلة، وكان ما شهده العقد الماضي من حرب الصرب في يوغسلافيا ومن الأزمة الأيرلندية هو آخر هذه الصراعات، رغم التحوّل الكبير الذي حصل في أوروبا وفي أنظمتها السياسية خلال القرن العشرين.
إنّ الفكرة الأساس هنا، هي أنّ عوامل الانقسام ومظاهره ستبقى قائمة في أيِّ مجتمع مهما بلغ هذا المجتمع من تطوّر اجتماعي وسياسي ومن تفوّق علمي وحضاري، لكن المهم ألا تكون عناصر الانقسام السائدة فيه هي ما يدفع إلى حروب أهلية بدلاً من تغيير سلمي يحقّق أوضاعاً أفضل للحاضر وللمستقبل معاً.
فالتعدّدية بمختلف أشكالها هي سنّة الأرض، والطبيعة تؤكّد تلك الحقيقة في كلِّ زمانٍ ومكان. لكن ما هو خيار بشري ومشيئة إنسانية هو كيفيّة التعامل مع هذه (التعدّدية) ومن ثمّ اعتماد ضوابط لأساليب التغيير التي تحدث في المجتمعات.
فليس المقصود هو أن تتوقّف كل مظاهر الانقسام في المجتمع... لكن المقصود هو أن تأخذ الصراعات السياسية والاجتماعية أولويّة الاهتمام والتفكير والعمل بدلاً من الصراعات التي تجعل الفقراء مثلاً يحاربون بعضهم البعض فقط لمجرّد توزّعهم على انتماءات أثنية أو طائفية أو قبلية.
فحينما يطالب شعب ما في أيِّ بلد بالعدالة السياسية والاجتماعية، تصبح حركته قوة تغيير نحو مستقبل أفضل، بينما العكس يحدث إذا تحرّكت الجماعات البشرية على أساس منطلقات أثنية أو طائفية، حيث أنّ الحروب الأهلية ودمار الأوطان هي النتيجة الطبيعية لمثل هذا التحرّك التخريبي.