الأحد، 31 مايو 2009

في إعلام الانتخابات..


تعريف
إن التدفق الحر للمعلومات والأفكار يعتمد على صميم فكرة الديمقراطية وأهمية تحقيق احترام فاعل لحقوق الإنسان. وفي غياب حق حرية التعبير - والذي يتضمن حق البحث والاستلام ونقل المعلومات والأفكار- تغيب أو تبتعد فكرة الديمقراطية في ذلك البلد.
إن تثقيف الناخبين هو كل نشاط تثقيفي يُقام في فترة الانتخابات بهدف التشجيع على الانتخاب وتعزيز الديمقراطية والوعي الانتخابي لديهم.. ومن هنا يأتي الإصرار على ضرورة إشراك الاعلام في التثقيف ، فإضافةً الى ماتمثله وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة باعتبارها مصدرا مهمًا من مصادر التوجيه والتثقيف في أي مجتمع ..فانها تعلب دورا في الحياة العامة و السياسية و خصوصا في فترة الانتخابات ولها تأثير مباشر في الرأي العام .
ويشمل هذا التعريف مجموعة واسعة من الأهداف، من ضمنها المعلومات الانتخابية الكثيرة التي تتوزع عل مرحلتي التسجيل والاقتراع ، وحقوق الناخبيين والآليات المعدة من قبل الجهة المنظمة للانتخابات وهي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.. إلا ان المفوضية في عملها على ادارة وتنظيم الاحداث الانتخابية ، تعمل مع شركاء مهمين و تعتبر وسائل الاعلام من اهم الشركاء في العملية الانتخابية .
والموضوع ليس خاصاً بتناول التثقيف الخاص بوقت الانتخابات او قبيلها بل هو الإعلام الذي يشمل الأنشطة التثقيفية الدائمة التي يستفيد منها الأشخاصُ المؤهَّلون قانونياً للتصويت أو الذين هم على وشك التأهُّل لذلك.
وثمة تمييز بين هذا النوع من التثقيف و(الحملات الإعلامية) التي تجري وقت الانتخابات؛ ففي بعض الحالات يكون هذان النشاطان بإدارة هيئتين مختلفتين...وهذه هي الاشكالية التي شخصت أمام عمل الهيئات الاعلامية في كثير من التجارب ومنها التجربة العراقية، إذ تُدرج تحت عنوان تثقيف الناخبين أنشطة إعلامية لاتتعلق بالديمقراطية والانتخابات عموماً، بل بقضايا انتخابية خاصة تتعلق بعملية التسجيل او تحديث سجل الناخبين أو آليات الاقتراع..ظناً من البعض أن تثقيف الناخبين على هذا النحو الواسع إنما هو نشاط ايديولوجي أو حزبي يجب أن يُترك لأحزاب سياسية أو منظمات المجتمع المدني!
مع إن هذا النوع من التثقيف يساعد كثيراً على حسن سير الانتخاب ورفع نسبة مشاركة الناخبين والخروج بنتائج انتخابية ناجحة وشفافة..

الأهداف
تشجّع البرامج التثقيفيَّة التي يشترك فيها الاعلام على المشاركة الناشطة في الانتخابات وتقدّم إلى الناخبين معلومات واضحة حول اجراءات الاقتراع. فهي تساعد الناخبين على أن يفهموا بمزيد من التمييز المعلومات المنشورة حول الحملات الانتخابية والمرشحين وكيفية الاختيار الصحيح أو الاستفتاء الملائم.
ويمكن أن يساهم هذا الإعلام في خفض كلفة استحقاق انتخابي وفي زيادة مشاركة الناخبين والحدّ من التوتُّرات ومظاهر التعصُّب، وفي حمل الناخبين، في ظروف نزاعية، على تقبّل نتائج الانتخاب.
ويهدف تنفيذ البرامج التثقيفيَّة اعلامياً إلى تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، كلياً أو جزئياً. غير أن هذه البرامج أثناء الحملات لا تكفي وحدها لبلوغ كل تلك الأهداف المشروعة، فتثقيف الناخبين يجري في أثناء الاستحقاق الانتخابي وفي سياق عملياتي خاص ، وهو لا يمكن أن يحلّ محلّ تخطيط انتخابي تثقيفي جيّد مؤثر بعيد المدى يحتل فيه الاعلام دور الصدارة في الكشف والتحليل والرصد والايصال المعلوماتي الدقيق.

المبادئ الأساسية للاعلام الانتخابي
ووفقا للمعايير الدولية فان الاعلام في فترة الانتخابات عليه توخي ثلاثة مبادئ أساسية هي :
أولاً: الدقة في الحصول على المعلومة.
ثانياً: التزام الموضوعية في نشر المعلومات.
ثالثاً: عدم التحيز والتعامل المنصف مع جميع الكيانات السياسية والمرشحين دون اعطاء الافضلية لاحد منها .

دور وسائل الإعلام إثناء الانتخابات
وفي ضوء هذه المقدمة يمكن تحديد دور وسائل الاعلام في الانتخابات في اطار محورين
المحور الاول :- يلعب الاعلام دورا مهما في تغطية حراك العملية الانتخابية وكل النشاطات والاعمال والمراحل التي تقوم بها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وصولا الى يوم الاقتراع واجراءات العدوالفرز ثم اعلان النتائج .
المحور الثاني :- كما يلعب الاعلام دورا اخرا يتمثل في تغطية الحملات الانتخابية للاحزاب والمرشحين المتنافسين فيما بينهم للفوز بالمقاعد .
وعلى وفق هذين المحورين على وسائل الاعلام القيام بالمهام والادوار التالية:
1. تثقيف وتحفيز المواطنين ممن لهم حق المشاركة في الانتخابات على الايجابية والذهاب إلى صناديق الانتخابات للإدلاء بأصواتهم .
2. وتثقيف الناخب على أهمية صوته ومدى تأثيره , لذا فإن عليه التدقيق فيمن يختاره ليعطيه صوته .
3. التغطية الكاملة والدقيقة والمتوازنة للحملات الانتخابية للمرشحين باختلاف انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم الفكرية .
4. إثارة حوار ونقاش عام حول أجندة القضايا التي تطرحها البرامج الانتخابية للمرشـحين وعلاقتها بقضايا المجتمع .
5. تقديم تغطية تحليلية وتفسيرية لهذه البرامج بما يساعد الناخب على التمييز والاختيار بين المرشحين ( دون الوقوع في إشكالية التحيز لمرشح معين بشكل مباشر) .
6. كما ان على وسائل الاعلام الالتزام بالقواعد والنظم القانونية وماتتضمنه من تنظيم لعملية التغطية الاعلامية في فترة الانتخابات .

الخطة الاستراتيجية
من الممكن تعزيز دور كلّ من هذه الأنشطة بفضل دعاية فعّالة متمحورة حول السيرورات الإدارية للانتخابات، وبفضل حملات إعلامية انتخابية وبرامج تثقيفية متمحورة حول دور الانتخابات.
ويتعيَّن على المسؤولين عن التثقيف أن يكشفوا عن آراء الناخبين وممثّلي الأحزاب السياسية والجمهور الواسع إذا أرادوا أن يحسنوا توجيه حملاتهم الإعلامية؛ كما يتعيَّن عليهم أن ينقلوا معلومات موافَق عليها من قبل مديري الانتخابات لكسب ثقة الناخبين.
أهمية مشاركة وسائل الاعلام في البرامج التثقيفية، ومساهمة المواقف الإيجابية والحكيمة لمديريها في تخفيف الموازنة المخصَّصة للتثقيف.
إنّ مختلف تقنيات الاتصالات والإعلام والتثقيف متداخلة. وعليه، تمثّل تقنيات الدعاية والتسويق مكمّلاً جيداً لطرق التثقيف الجماهيري والجماعي. وينبغي أن يرتكز اختيار الطرق على الهدف المقصود والسياق المعني والموارد المتاحة، وليس على رأي مسبق بما يجدر فعله.
ينبغي على المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ،بدلاً من إنشاء خطط تثقيفية واعلامية ضخمة ومحاولة القيام بكل شيء بهذا الصدد ، أن تعدّ خططاً دقيقة لتشجيع مشاركة وسائل الاعلام والاعلاميين في هذا المجال. ومن حسنات هذا الحلّ أنه يحدّ من التكاليف الإدارية والوقت اللازم ويُشرك أكبر قدر من المواطنين في السيرورة الانتخابية. هذا بعد أن نضع تحت تصرّف المسؤولين عن التثقيف والاعلام منافذ إلى جميع أنواع المعلومات الانتخابية ، من نشرات إعلامية وتعليمات ونشاطات تثقيفية ، إضافة إلى موارد أخرى مثل الملصقات والرسوم.
على كل بلد أن يجد المقاربة التي تناسبه، وخصوصاً إذا كان ينوي تنظيم العملية أو قوننتها؛ غير أن معظم البلدان تميل إلى عدّ إعلام الناخبين والتثقيف كنشاط أساسي ومهمة أساسية من مهمات الجهاز الانتخابي. أما التثقيف الأعمُّ حول الديمقراطية نفسها، فيُترك للتجربة المُعاشة أو لمبادرة المواطنين.
بعد ذلك، يتعيَّن على المسؤولين عن تخطيط البرامج تحديد مجموعة الأدوات التي سيستخدمونها للإعلام والتثقيف: وسائل الإعلام، مؤسسات تعليمية، منظمات أهلية، مقابلات شخصية، مطبوعات، برامج إذاعية أو تلفزيونية..إيجاد شركاء..وصوغ الرسائل الملائمة.
على المسؤولين عن برامج التثقيف الاعلامي أن يستخلصوا العبَر التي ستساعدهم على إعداد البرامج المقبلة. وقد يضطرّون أحياناً إلى تقويم كل مرحلة من مراحل البرنامج المنفَّذ بهدف تحديد إطار البرنامج المقبل على وجه أفضل، ورسم الاستراتيجية المقبلة.
وأخيراً ، تبقى خير وسيلة لنشر المعلومات هي مايسمى بـ(التلقيح المتقاطع) لآليات مستخلصة من تجارب عدد كبير من القيّمين على التثقيف، المهتمّين بتبادل ملاحظاتهم في إطار ندوات، وبرامج تبادل ومناقلات قصيرة الأجل.

الثلاثاء، 19 مايو 2009

قضية المرأة في العراق


في مسيرة قرن من عمر العراق الحديث سجّلت التطورات الاجتما عية والسياسية واقتصادية كثيرا من المتغيرات. ولقد كانت التراكمات الهائلة للاحداث قد ولَدت تغيرات نوعية عكست عددا من الطفرات الموضوعية في الحياة العامة ، كان من أبرزها صعود دور المرأة العراقية وتعاظمه ، الامر الذي جسّدته القوانين العراقية مثلما برز في تفاصيل المشهد الاجتماعي..
ففي الوقت الذي كانت فيه المرأة مطلع القرن الماضي حبيسة البيت وجدرانه.. وفي وقت كانت لا تخرج من بيت أبيها إلا إلى بيت زوجها حيث يوصف البيت الذي تعيش فيه (بالقبر) حسب الميثولوجيا العراقية وحياتها بلا جدوى ولا أية قيمة إنسانية جدية..
إنّ التعبير عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي في القانون هو عملية معقدة بحاجة إلى مزيد من التفاعل والأنشطة من أجل تثبيت الحقوق وإنصاف المرأة - الإنسان في مجتمع يحمل بين نواحيه تقاليد متخلفة استطاع النظام الدكتاتوري أنْ يدفع باتجاهها عبر القمع والإكراه والتشويه.. وهكذا ظل القانون هو قانون الرجل المستبد المريض، ومن ثمّ فلسفة الأحادية والذكورة والفحولة وسطوة قوة تستلب المرأة من حقوقها حتى أبسطها...
ان الممارسات العنفية السلبية والمريضة لم تستطع اختزال المجتمع وحركته الإيجابية في سياستها الظلامية..ولكن ما يجب الالتفات إليه هو أنّ أي نظام شمولي من نمط النظام المباد هو أسّ البلاء ليس للمرأة وحدها بل والمجتمع أيضا.
ولابد في جوهر الأمر أن تقف بحزم وقوة من أجل منع تثبيت ما يتعارض مع الحريات الإنسانية الأساس ومع حقوق المرأة الجوهرية وبعد ذلك ليكن ما يكون من أيديولوجيا وغيرها.. المهم أن تعي المرأة لمن تعطي ثقتها.
وإذا كانت معظم الدساتير في الدول العربية قد أتاحت للمرأة ممارسة حقوقها السياسية، وكفلت لها جميع الفرص التي تمنحها المساهمة الفعلية والكاملة في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية... فإن الواقع العراقي يؤكد أن المرأة لم تنل الحقوق التي نص عليها الدستور، لأن السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي في غالبها للرجل.
وبالتالي هو الذي يعطي وهو الذي يمنع. وهذا يعني أن أي تعبير عن وضع المرأة يعتمد أساسا على التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمع. فالتقدم والرقي في أي مجتمع يقاس بدرجة مشاركة المرأة، لأن العلاقة بين وضع المرأة في المجتمع ومشاكل التنمية هي علاقة تأثر وتأثير.
وفي حال فكرت القيادات السياسية العراقية في رفع شأن مجتمعاتها، فعليها أن ترفع من مستوى مساهمة المرأة في النشاط التنموي على مختلف مجالاته. وعليها أن تمحو أمية المرأة، وتؤهلها مهنيا لتتمكن من المشاركة في عملية التنمية، ومن الطبيعي أن تجد في نفسها القدرة على تمثيل نفسها والمجتمع العراقي الذي تشكل أكثر من نصفه حجما.
وفي ظل التحول الجديد في العراق صار عليها أن تصر على التقدم بنسبة تمثيلها في المؤسسات الرسمية وفي التجمعات الثقافية والفئوية والمهنية وغيرها.. وأن تثبت جدارتها عبر الارتقاء بقراءاتها ومعالجاتها لقضايا المجتمع من وجهة نظرها ورؤيتها للأوضاع العامة.. فليس من يعبر عن قضية كصاحبها، وقضية المرأة ووجودها الإنساني لا تحسم إلا بتمثيلها ووجودها. وليس صحيحا أن أنصارها من الرجال يمكنهم التعبير عن قضايا كثيرة مخصوصة في الحياة العامة..
وذلك نظرا لخطورة دورها في الحياة والمجتمع فأن المجتمع الإنساني يحتاج إلى علل وعوامل ليتأمن صفاء الضمير بين أفراده ولا تكفي فقط القوانين والمقررات السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها .
ومن ناحية أخرى ، إن المجتمع البشري الكبير يتشكل من مجتمعات صغيرة عائلية ، أي ان أعضاء العوائل المتعددة هي عامل تحقق مجتمع رسمي ، وما دام لم يقع سبب الرأفة بين أعضاء الاسرة ، فان روح التعاون وعلاقات المحبة لا تقوم ابداً بين أفراده عند تشكل المجتمع الرسمي ، وأهم عامل يثير الرأفة والتضحية والايثار بين أفراد العائلة هو تجلي روح الأم بين أعضاء الأسرة ؛ لأنه رغم ان الأب يتولى الأعمال الإدارية لمجتمع صغير ( أي العائلة ) .. ولكن أساس العائلة الذي شيد على الرأفة والوفاء والارتباط هو بعهدة الأم ؛ لأن الأم تولد أبناء يرتبط كل منهم بالآخر ، والأفراد الذي يولدون من امرأة واحدة ليسوا مثل فواكه شجرة واحدة حيث لا تظهر روح الايثار الإنساني في مستوى النبات وليسوا مثل صغار حيوان انثى يفتقدون التعاون الإنساني ، ولا يتجلى فيهم الارتباط البشري الخاص .
إنّ الخوف من التقاليد أو الخضوع لها أمر يضعف من إمكانات تحقيق مكانة المرأة ومكانها الاجتماعي وهو يُلحقها تابعة صاغرة لمفاهيم تستلبها شخصيتها الإنسانية القويمة، ومن الطبيعي أن تعمل المرأة اليوم أولا بأول من أجل الخطوة الجوهرية الأساس ألا وهي خطوة تثبيت حقوقها الإنسانية في الدستور العراقي المنوي تعديله في أجواء من الصراع العنيف تتصاعد فيه حدة مشاكسة القوى الظلامية وتقدمها نحو تثبيت رؤاها التراجعية ..
إن الدور والواجب على المرأة أداؤه، ليس هدّية يقدّمها الرجل لها، فإذا امتنع من تقديمه فلا دور لها في الحياة، بل هو حق من حقوقها ومسؤولية من مسؤولياتها. وعليها أن تلتزم هذا الحق وتمارس هذه المسؤولية، وإلا فلن يشفع لها أمام الله والتاريخ أن تعتذر بأن الرجال لم يتركوا لها واجباً أو لم يقدموا لها دوراً.
من هنا يمكننا أن نقول: إن التقدم بقضية المرأة مرهون بنجاحها في تنظيم نفسها وحركتها وتوحيد صفوف منظماتها وتنسيق الجهود وشن حملة جدية وقوية من أجل التوعية ومن أجل جذب اكبر تجمع نسوي بعيدا عن سطوة فلسفة الذكورة المقيتة والتحول إلى أوضاع المساواة والتكافل والتكافؤ ..
وبالتقدم في المجالات التي وقف التراجع فيها حالياً ينبغي الاستناد في حركة التوعية إلى قواعد مكينة من تاريخ نضالي للمرأة وللحركة الوطنية العراقية..
ولابد أن يتوّج نضال المرأة العراقية بمبادئ وقوانين وفقرات دستورية صريحة وإلا فستظل رهينة التفسيرات المزاجية لقوى التخلف والظلام المنتشرة المستشرية في الحياة العامة..
لقد عكست مشاركة المرأة العراقية في الانتخابات ضرورة أن تولي الحركة النسائية العراقية اهتمامها الى الجانب الكيفي للمشاركة ، واذا كانت المشاركة في جانبها الكمي من حيث قياس عدد المشاركات هي في حد ذاتها دلالة على وضع المرأة في الحياة العامة ، فانه لابد من استكمال وصف هذا الوضع من خلال نوعية المشاركة لتفعيلها وجني ثمارها.

الجمعة، 15 مايو 2009

الترابط الجدلي بين الفلسفة والرؤى الجمالية

الفلسفة – اليوم- وثيقة الصلة بالفنّ والتأريخ والأدب والدين والأخلاق وغيرها من العلوم والآداب...اختلفت عن المضمون الضيّق الذي منحه لها أرسطو حينما عرفّها بأنها (معرفة الوجود في ذاته) أي البحث في جوهر الوجود, فإنّ ذلك التعريف مع كونه يصطدم بتعريف الوجود ذاته وطبيعته وموضوعه, يجعل من الفلسفة بحثاً نظرياً مجردّاً متعالياً لا إرتباط له بنوعية الفعل الإنساني المؤثر الحكيم الخلاقّ المستند إلى أصول وقواعد ومبادئ أخلاقية ودينية, تصبّ في الصميم من مجموع المعارف الإنسانية...
لكننا للآن نجد بعض الفلسفات الإسلامية تختصّ بموضوعة الوجود المطلق وما يرتبط به من مباحث ذهنية وعقائدية وأخلاقية, ولا تتعداه إلى غيرها مع تطوّر العلوم وتعقدّ الحياة وتجدد مطاليبها ورؤاها وإشكالياتها..
والأخيرة تخالف روح الفلسفة وأقدم تعاريفها (حبّ الحكمة) , إذْ إنّ الحكمة لاتختصّ بمعرفة مباحث الوجود المطلق, فالحكمة المعاصرة تستدعي وضع مناهج وفلسفات ورؤى لتطبيقها بشكل عملي, مع نوع من التطلّع نحو الكمال والرقي والإحاطة ومعالجة مشكلات الواقع المعقّد والعصر المتغيّر, وليس من الحكمة والإعتزال أو الدوران مع مباحث ذهنية مجرّدة أو الغوص في فد لكات وشروح كلامية لإظهار براعة علمية وفلسفية!!
المهمّ أنّ الفلسفة ليس إنعكاساً بسيطاً للواقع أو الزمن أو التأريخ, بل هي تفاعل حيّ جدلي بين الفلسفة وواقعها, تسهم في إعادة بنائه وتشكيله ضمن شروط وحدود وقواعد, ففي كل عملية تفكير فلسفي عودٌ إلى الأصول النظرية الأولى وخطوة إلى الأمام.
ولذا فالفلسفة في موضوعها ومضمونها ومنهجها وتأريخها مرتبطة بالإنسان والحياة والتاريخ والسنن والقوانين الكونية التي تنظمّ التحولات الإنسانية والعالمية والإجتماعية والحياتية في مختلف المجالات, وهي كلمّا إرتبطت بالواقع المعاش أكثر, إزدادت أهميتها وأثريت بحوثها وتمتّن صدقها وتأصّل جذرها.
(إنّ صدق فلسفة ما وأصالتها يكمن في تأليفها بين ما هو مؤقت وما هو دائم, بين ما هو زماني وما هو أبعد من زمانها, أي في تركيبها الخاص والعام, في حركتهما وقوانين هذه الحركة وتبدّلها, هو تركيب غير حسابي, إذا صحّ التعبير, ولا يتحدّد بكيفيات ثابتة ومطلقة إلاّ في عموميات تصلح لكل زمان وأرض وشعب).
فإذا كان هذا هو مضمون العملية الفلسفية وهمهّا الأساسي بحيث تكون نشاطاً إنسانياً محموماً ومفهوماً, فيسهل الحديث حينئذٍ عن إرتباطها بالأدب والفن والجمال والرؤى الجمالية الأخرى , إذْ إنّ الأدب أو الفن في حقيقتهما هما عبارة عن التجربة الإنسانية المعاشة في الواقع أو في الخيال أو الذهن أو الشعور منقولةً إلينا عن طريق آليات جمالية تعبيرية أو تصويرية.
فالأدب والفنّ, نصّاً شعرياً أو قصصياً أو مسرحياً أو عملاً أدبياً أو فنياً آخر أو لوحةً أو غير ذلك, هما الحدث أو الفكر بشكل جمالي إيحائي تخييلي, فهي تجربة جمالية بعد تجربة واقعية, ولذا تكون العلاقة بينهما أي علاقة الأدب والفن بالواقع والحياة والمجتمع علاقة وطيدة تفاعلية جدلية...
وهما فعّاليتان جماليتان إرتفعتا عن مواضعات العادة, وإخترقتا المجال التقليدي للتعبير إلى حيث التخييل والسحر والجمال وتحويل الواقع إلى(لا واقع) , لكن يبقى الواقع هو مادة الأدب والفن وركيزتهما الأساسية...
أمّا علاقة الفن والأدب بالأفكار فهي تتمثل بعملية وعي الأدب للواقع, فإنّه أي الأدب أو الفن حينما ينقل لنا التجربة بجمالية متفردة وخصيصة إبداعية ساحرة,في الحقيقة ينقل لنا وعيه المرشح للظاهرة أو الحدث الذي جرى على سطح الواقع.
وهذا الوعي المترشح من التجربة الواقعية والجمالية أي من خلال مرحلتي الإبداع, هو عملية التفكير التي يبديها الأديب أو الفنان من خلال نتاجه وعمله, فالشاعر والقاص والرسام والناقد والمسرحي هم مفكرون لكن بطريقة جمالية, يتركون للإبداع لحظته الناطقة دون أن يتقيدّوا بلون معرفي معين أو نمط تفكيري خاص, مع الاتفاق على ضرورة الهدف والغاية وأصالتهما.
وعوداً على بدء , نتساءل ما هو إرتباط الأدب والفن والجمال بالفلسفة؟
ولا أعتقد أنّ الجواب بنفس اليسر والسهولة التي نجيب بها عن علاقة هذه الثلاثة بالأفكار عموماً, فإننا معنيون بميدان أكثر خصوصية, ألا وهو تداخل الفلسفة ـ بما هي نمط تفكيري خاص ونشاط إنساني يعقلن عملية التفكير ومنهجها الذي يؤسس قواعد العلم الأكثر عمومية وشمولية ـ بالأدب ـ بما هو واقع وفكر منقول إلينا جمالياً وإبداعياً ـ.
وتتضح الإجابة عن التساؤل الآنف حينما نلتفت إلى أنّ النظرة إلى الجمال هي نظرة فلسفية, والصفة الأساسية التي يمتاز بها الشاعر ـ عند غويو ـ في جوهرها هي الصفة الأساسية التي يمتاز بها الفيلسوف. فما يلهم الأديب والفنان هو إحساسه العميق بالأشياء وقدرته على إبداع نص جميل يدعونا لمعايشتها معه ثانيةً على الورق, وعملية الإحساس العميق بالأشياء وطبيعة النظرة تجاه الظواهر والأحداث والأفكار بحيث يكون للمبدع رأيه الجمالي الخاص بها كلّها, هي نوع من التفكير الفلسفي دون أن يعني هذا ضرورة إنسحاب أدوات الفلسفة ومفرداتها وتقنياتها ومناهجها إلى العملية الإبداعية هذه .
فالأديب والفنان ـ بكلمة ـ لا يمارسان تفكيراً فلسفياً, لكنهما يبديان وعياً فلسفياً بالأشياء والأحداث والظواهر. وإذا كان الأدب أو الفن هما وعي الواقع جمالياً, فإنّ الأدب الفلسفي هو وعي ذلك الوعي, أي وعي مركّب. فهي عملية واحدة يرتبط فيها الوعي الفلسفي بالوعي الجمالي.
هذا بالإضافة إلى كون الحكمة بشكلها المعاصر تستدعي وضع مناهج وفلسفات ورؤى لتطبيق أنماط التطلّع نحو الكمال والرقي ومعالجة إشكاليات معقدّة لواقع راهن وعصر معقد متغيّر...ففي نص (إنّ من البيان لسحرا) دلالة واضحة على أنّ الأدب هو تحويل الواقع إلى سحر, خيال, لا واقع, جمال. ليرتفع بذلك عن الكلام العادي ويؤثر في حاسّة المتلقي ويدعوه للتفاعل مع المضمون الذي يطرحه النصّ, فإن كان المضمون فكرةً ملتزمة عن الحياة أو الحقيقة أو الوجود أو الكون أو شيء آخر, فإنه سيتخذ العمل الإبداعي والصناعة الجمالية النصيّة شكل الفلسفة المسمّاة بالمقطع الآخر بـ(الحكمة).
لكن الأدب وحتى الفلسفة اتجاهات ومناهج وأنماط تفكيرية مختلفة, فيما النصّ النبوي الشريف يشير إلى أنّ افضل هذه الإتجاهات هو السحر المنطوي على الحكمة, أي العملية الإبداعية أو العمل الأدبي والفنّي المرتبط بفلسفة الحقيقة والحقّ (الحكمة)..و(من البيان), وليس كلّ الشعر وكل البيان, هو عملية أدبية فلسفية حِكمية مجدية.
والآن لقد أصبحت العواطف والمشاعر ـ مع تقدمّ الحياة وتعمقّها ـ مشبعة بالأفكار, وأضحت بذلك أكثر عقلية. وذلك لأمر بالغ العمق في علاقة الأدب بالفلسفة. هي الخلفية القائمة فعلاً دون أن يرتبط ذلك بإدراكنا ضرورة..وفي الفنون والآداب العربية والإسلامية, ما يشير إلى هذا الترابط الجدلي بين الآداب والفلسفة, والدور الحاسم الذي تمثلّه التغيرات والتحوّلات التأريخية في مجالات الدين والسياسة والإقتصاد والكلام, في مجمل البناء الأدبي والفنّي وأشكالها مضموناً وهيئةً ومادةً..وهذا ما يتطلب إدخال منهجيات الكتابة الحديثة وقراءتها وآليات التعبير الحديثة في العملية الابداعية ..

قصيدة: العطش الأخير لأورك


عطشى البلاد..تضيئها أحلامهـــــا ويهشّ في وجه الحصاد غمامهــا
هربت اليك بجرحها.. مهزومـــــة من نزفها.. حجرية أعوامهـــا
وغفا على رمشيك عرس للنخيـــــــــل فرفّ عند ظمى الفرات حمامهـا
وافتك بالطوفان تسأل ظلّهــــــا: أحقيقة ما تدّعي أوهامهــــا ؟
هل أنت قهوتها التي ما خبّئـــــت وطناً سواه.. وحدقتاك مدامهـا ؟
أو أنت طعم هديلها اغفى علــــى شفة الجراح.. فخانها إلهامهــا ؟
أو أنت بستان البنفسج والكـــروم تزخرفت بظلاله أيامهــــا ؟
أو أنت زهو الأرض تستبق الصغــا ر الى الحقول مواسماً أقدامهـــا ؟
ام انت خشخة السلاح وشهقة البـارود ان خفقت ندى اعلامهــــا ؟
سالتك: أين قوافلي؟محمــــــومة تغزو الشموس هوىً، فيرفع هامها !
من أنت حتى تستحيل مدائنـــــاً للنار،يغرق باللهيب رغامهـــا ؟
سحب الشظايا كيفمــــا روّضتها في ذاتك اللوعى، فأنت ركامهـا !
ماذا؟ أأنت مدىً يعانق جرحهــــا فيخرّ في دامي الصهيل حطامهـا ؟
لا فجر الا ان تؤذّن خلفهــــــا ويقيم مأدبة الشعور أنامهـــا
****
عطشى البلاد ..تنثّ في وهج الضحى ذهباً،وتشهق بالردى أنسامهــا
يحنو علينا همسها-زمن الجحــــود- كأن صمت العاشقين كلامهــا !
من ألف خطوة فاتح نديانــــــة بدم المخاض، تخطّنا أقلامهــا
وبوجهنا الطينيّ شعّت ضحكـــــة عذراء ، يركض بالشموخ سلامها
السومريين الألى ما عانقـــــــوا غير الدلال، وللصعاب كرامهـا
والسومرية ما شكت جرحاً لغــــيـــــر الماء، تغسل وجهه آلامهــــا
ماذا دهاها اليوم تعثر بالشظـــــى مدناً تعيث بعشبها ألغامهـــا
وتبعثر الألواح فوق مذابح الــــــرؤيـــا , فتلك جنائز أحلامهـــــا
وتكبّل القمر الحزين فجيعــــــة خرساء،يسكر بالظلام ظلامهـا
وبلادها للعابثين معابــــــــد يفتي بذبح الياسمين إمامهـــا!
فإلى مَ تستجدي سنابل حقلهـــــا ضحكاً، ويهرع لليباب نيامهـا
نادتكِ فانتفضي يجبّنْ غولهــــــا وثبي لبحركِ تنهدمْ أصنامهــا
أو فاطعمي الرؤيا صغاركِ تبتئــــسْ نُذُرُ الردى، فالوعي نعْمَ طعامها
****
عطشى بلادك.. تستغيث رقابهــــا بخناجرٍ طافت بها أرحامهــا
لم تجن شيئاً.. أرضعتك مياههــــا وحنى عليك بكبرياء فطامهــا
يا طفل هاجر .. لقنتك بشوطهـــا أن الحضارة في يديك زمامهــا
أتؤوب للصحراء، كفّك موحــش عطش الرمال وشوكه يستامهـا
وتدوس أحذية الجنود ملامحــــاً سمراً، وتركل حلمها أقدامهــا
وسياسة التوحيد فينا زهـــــرة للآن ما فُتقت هوى أكمامهــا
يا أيّها الولد المعتّق في لظـــــىً شبحت على وجع السراة ضرامهـا
شدّ الرحال لكلّ فجر ضاحـــك واغزلْ خيوط الشمس.. أنت نظامها

قصيدة : احتفالية النجوم والحرائق


في اندلاع الحرائق
آخيت عينيك
رحت افتش في لون رمشيها
عن ظلال
وحكاية من الامس ، مشمسة اللون ،
وزعها العاشقون هنا ، في محطاتهم ،
ذكريات جنون !

أنت خبئت بين الشرايين
نبضة عطر
وحبة قمح
فكيف اشاطر عينيك لونيهما !
كيف آوي الى شرفتيك
وهذه القصائد تمطرني
برذاذ عواصفها الميتة !


قبل أن التقي بالغمامة
كنت الحياة التي أيقضت جثتي
نفضت عن ملامحها
كل شيء
ينكرها في احتفال النجوم
وحين التقيت الغمامة
كنت جنازة وردٍٍ
يطوف بها الاصدقاء!
ايه عينيك
آخيت لونيها فكبرت ......
كبرت ....
كبرت .....
وأولمت نفسي لأعقد عرسا من الضحكات
بيوم القطاف
ولكنني ...
قد رجعت
سلالي مملؤة بالفراغ الجميل !
ورجعت اغني :

أنا ما زلت في المنافي اغنيك ....وقيثارتي الرماد الجـريحُ
لم ازل ياليلاي طفلا يناغيـه على البعد.. صوتك المملوحُ
لم يزل يوقد الهوى في عروقي .....فاحملينـي لدارها ياريحُ
واصلبيني على المسافات اني طائر في اشتياقها مذبوحُ

وهكذا ...
عشت عمرا من الانطفاء
بلا دمعة ساخنة !
هكذا...
حاصرتني الحرائق
حين تأهّبتُ
صممتُ ان استحيل الى دمعة
فوق خد اليتيم!
ورجعت اغني :

أورق النجم فالحكايا اشتهاءُ ... يتوارى في ظلها الفقـراءُ
ويعــود الصغار من رحلة النهر ......يحيى رؤاهم الانبيـاءُ
سومريٌ نجيمهم .... أبدي النخل يعيــا برمشه الانطفاءُ
الشناشيل حلمهم...والحكايا أبـداً في عرائش اللوزِ مــاءُ
ذبحتهم كل السكاكين فيما.. ..دهشة الكل أنهم أحياءُ!!


وحياتي التي كنت خبئتُها
في العرائش
عادت لتصحو مع الفجر
توقد كل القناديل في الكلمات
لأنثرها في احتفال النجوم ...

ورجعت اغني :
(للشمس دين ولي في عشقها ديني..نحن احتراقان من خوف وتطمينِ
نحن اغتراب الأماني عن توجسها......مثل النوارس في أطراف تشرينِ
رفّ الضحى بين جفنيها فكحّلها.........برعشة من هوىً هيمان مجنونِ
وحدي وتشتعل الأزمان في حدقي...غاباً من الخوف مهموم العراجينِ
وحدي وصوتك يطويني وأنشره...وجداً وأسقيه من روحي ويضميني)

الخميس، 14 مايو 2009

التغيرات السياسية لتنظيم القاعدة في العراق

ان من المسلم به عدم وجود منهج واحد لكل مجتمع فالتغير وعدم التماثل بين الافكار والمناهج الحياتية ينتج افكاراً وإتجاهات متعددة ، ولفكرة واحدة احيانا، فمن أسس فكره ومنهجه على قسر الآخرين لإتباع فكره ومنهجه لا بدّ ان نتوقع حدوث التناقض مع بيئة القسر و الضغط داخلها ، الأمران اللذان سيولّدان الانفجار والرفض فيما بعد لأصحاب المنهج القسري والخطاب أحادي النظرة..
وهكذا فان القوى المتصارعة التي تطمح الى السيطرة على العالم الآن – حسب آلفن توفلر – والمعارك المتزايدة العنف التي تشكل موضوع تحول السلطة ينحسر فيها تأثير عاملي القوة والمال ليبرز فيها تأثير عامل المعرفة ، وبعبارة أخرى إن الأخيرة هي التي ستنتج المال والقوة وليس العكس .
وهذا بدوره يخلق نمطاً خاصاً للحياة الاجتماعية ، و يسعى لابراز ذاته ووجوده عبر تمظهرات مختلفة كل حسب طاقته وقدرته ، ففي الوقت الذي كان فيه للدولتين العظميين ادواتهما المعرفية ( اقتصاديا ًوعسكرياً ) والتي تجلت في ( حرب باردة ) او بروز كتلة اوربية او سوق عالمية مشتركة ، تكون للدول والشعوب في العالم الثالث المسماة بالنامية ، أدوات معينة تتفاوت في مرجعيتها الثقافية والسياسية ، تنطوي ضمنها تيارات العنف والتطرف والارهاب ظناً منها بان هذه الادوات هي اللافتة الوحيدة لمجابهة القوى المتصارعة اقتصادياً وعسكرياً ومعرفياً ، كما تنطوي ضمنها تيارات الانفتاح والحداثة والتي تؤمن بالحوار والعمل السياسي والكدح الاجتماعي والجدل الفكري وعياً منها بان هذه الأدوات انجع في الحل وأعمق في الطرح والتناول واكثر تأثيراً في عالم اليوم .
وهذا بطبيعة الحال يخلق ردة فعل نفسية لدى المنتسبين الى الهوية الاسلامية فيعبّر كل عن تذمره بما يتلاءم مع وعيه وثقافته ، فمنهم من يناهض ذلك سياسياً ومنهم من يناهضه اعلامياً ومنهم من يجابهه بقوة السلاح ..والأخير قد ينتهج المجابهة بشكلها العلمي الواعي المبرمج فيدعى بالـ ( مقاومة ) المستندة الى اسس واصول وثوابت في العمل والموقف والحركة والسلوك ، ومنهم من يشتطّ في ذلك او يلغي الرجوع الى قاموس قيمي معيّن فيسمى بالـ ( ارهابي ) ، لكن تبقى المعارضة السياسية السلمية هي الوجه الحضاري للتعبير عن الرأي..
وبما ان الارهاب مبدأ مرفوض انسانياً واسلامياً وقانونياً ، وان اللاعنف والتسامح والحوار هي السمات والخصائص والمنطلقات الفكرية لكل القوانين والاعرف والاديان السماوية ، فان اغلب الجماعات الاسلامية في العراق احزاباً وتجمعات ومؤسسات ونخبا وجماهيرا انتهجت اسلوب العمل السياسي في اغلب تحركاتها داخل المجتمع ..
وبقيت التكتلات والاحزاب والجماعات الاخرى تتماهى مع تنظيم القاعدة وتستمد منه الشرعية والقوة، الأمر الذي انتج مساحة تدميرية واسعة للبنية التحتية والبشرية في العراق لم يكن نصيب الاحتلال منها –اللافتة التي رفعتها القاعدة في حربها داخل العراق- إلا اليسير من الخسائر.
و ايضا بقيت القيادات الاسلامية في العراق ترفض اتهام جماعتها وحركتها بالعنف لأن الإسلاميين لا يرون ان العنف هو الاسلوب الوحيد للصراع اما العمليات التي تبنتها القاعدة في العراق وغيره من البلاد كالتفجير وخطف الاشخاص والطائرات والاغتيال والتهجير القسري ، فليست من الوسائل المتبناة للحركة الاسلامية العراقية الجديدة والتي تعاملت مع راهن مابعد السقوط بطريقة العمل السياسي وجعلته من اولويات خياراتها، وان خلقت القاعدة في العراق تيارا دينيا مسلحا راح يتذرع بوجود القاعدة واسلوبها التكفيري لممارسة ردود افعال عسكرية متشنجة تشابه في كثير من مقاطعها اعمال القاعدة واساليبها..
ومع هذا فالكيان الاسلامي السياسي في العراق كان يتبنى مفهوم المقاومة منذ امد طويل يصل الى اكثر من ثلاثة عقود من مقارعة الديكتاتور والطغيان ، وكان لا بد له الآن ان يؤسسس لمقاومته السلمية لان عسكرة هذه المقاومة قد انتفت الحاجة اليها في ظل تجربة العراق الجديدة وانتخاب الشعب للحكومة مع تحفظنا على جملة من ممارساتها .
تصادمت هذه الحقيقة مع ما ارتكبه تنظيم القاعدة في العراق من أخطاء كبيرة أدت الى ترويع وقتل الابرياء واخافتهم مما هو خارج خط المواجهة بين طرفي النزاع بين العراقيين والاحتلال، ولاصلة له بالتحرير، فاتخذ الوعي الاسلامي العراقي بأغلب انتماءاته ومناهجه من هذا مستندا قويا لرفض القاعدة وعدم التعاون مع قياداتها فتفتت حواضنها وتعرقل سير اهدافها الستراتيجية المعدة..
أعان على ذلك كثرة الفتاوى والاحكام التي صدرت من علماء العراق بمختلف مذاهبهم وهي تحرم العنف واراقة الدماء وتخريب البنى ، وايضاً المواقف السياسية التي تستعمل الاسلوب النقدي في رصد ممارسات حكوماتها والمعارضة السلمية ، كما انه في الجانب المقابل وفي قراءة سريعة للطبيعة الاجتماعية العراقية و الثقافية تجد تأريخية التعايش والحوار هي الغالبة عليها..
بالاضافة الى ان تنظيم القاعدة في العراق لم تكن تمتلك برنامجا سياسيا واضحا للوصول للسلطة ولا يملك اصحابها غير إعتمادهم على الهجمات الانتحارية والتي يموت القائمون عليها جميعاً ولايشكل قادتهم في الخارج بديلاً للنظام القائم! ..فأخذ الصراع في العراق يدور بين الارهاب في اوجه وفي مختلف تسمياته ومظاهره ومصادره..والجمهور الذي تدعمه الحكومة بوسائلها المادية والمعنوية والاعلامية..
وهذه التغيرات في نظرة المجتمع العراقي الى تنظيم القاعدة لم تقتصر على الواقع السياسي العراقي ، بل تعدّت الى كثير من الدول العربية والاسلامية اذ يقول بحث دولى أجراه مركز "بيو" للأبحاث بواشنطن شمل 47 دولة منها 9 دول إسلامية فضلا عن الأراضي الفلسطينية لاستطلاع الرأى العام إن نسبة المسلمين الذين يرون أن الهجمات الانتحارية ضد المدنيين مبررة استنادا لأسباب دينية ، قد انخفضت بحدة فى الأعوام الخمسة الماضية..جاء ذلك في بحث..وتقول الدراسة إن التأييد للهجمات الانتحارية تراجع في 9 دول إسلامية عما كان عليه الوضع عام 2002 .
إن حرب الشعب العراقي انما هي ضد الإرهاب وهي حرب شرسة كانت الساحة الفعلية والميدانية لتحولات تاريخية وبنيوية قدر للشعب العراقي فيها أن يتحمل تكاليفها وتبعاتها وتضحياتها، ولطالما دعا الشعب العراقي أشقاءه العرب والمسلمين لتحمل دورهم في المسؤولية والتضامن العملي والمعلن والصريح معه في دحر الإرهاب وإجتياح معاقله وتدمير خلاياه!، إلا أن تلك الدعوات لم تجد للأسف صداها الحقيقي وتجاوبها الصريح من تلك الشعوب.
من هنا ولهذه الخريطة من الاسباب والتغيرات لم يكن العراق ارضية دائمية مهيئة لاحتضان استراتيجية تنظيم القاعدة، ونجاح مشروعها فيه، الأمر الذي يفسر اعتراف زعيم القاعدة اسامة بن لادن في شريطه الأخير بأن القاعدة في العراق ارتكبت (أخطاء كبيرة)..
لكن جملة من الملفات العراقية الساخنة لا زالت هي المحك الاصعب امام الحكومة العراقية لاستكمال بناء الدولة وفق معايير الديمقراطية والمجتمع المدني ، وبعيدا عن مفهوم العسكرتاريا ومفهوم الطائفية الذين احتضنا يوما ما ومازالا؛ النشاط القاعدي:
• الابتعاد عن المحاصصة الطائفية والحزبية، من خلال فسح المجال للتكنوقراط العراقي في اخذ فرصته لبناء دولة القانون بالكفاءة والمهنية اللازمين للبناء.
• فسح المجال امام المعارضة والعمل السياسي الناقد لسياسات الدول والحكومات والاحتلال , من اجل اتاحة الفرصة للمطالبة بجدولة الانسحاب والتعبير عن الهوية الفكرية والوطنية الخاصة للجماعات الاسلامية الحقيقية..لفرزها عن الجماعات التي تمارس العنف والارهاب بحجة مقاومة المحتل..
• عزل المقاومة السلمية التي تعتمد الحوارالدبلوماسي والمفاوضات عن الجماعات المسلحة التي تعتمد التصفية الجماعية والاغتيالات والاختطاف ، لان عملية العزل هذه تكون عامل اسناد للترويج للمقاومة السلمية.
• انشاء قاعدة شعبية للمقاومين الذين يبرزون على الواجهة السياسية كمفاوضين وعدتهم الحوار والسجال السياسي، كما انها تخرج المقاومين الحقيقيين للاحتلال من حيّز تهمة التواطؤ مع الاحتلال .
• التوعية بدور الغرب في قطف ثمار الارهاب واستثمارعوامل التطرف في العالم الاسلامي من خلال الكشف المنطقي عن وثائق سياسية موجودة هنا وهناك والعمل على الربط الموضوعي بين الحيثيات الموجودة في هذه الوثائق..ومن ثم تجنب الصدام معه في الوقت الحاضر ما دام متذرعا بلافتة القضاء على الارهاب..

التعددية السياسية والدينية في نموذج الدولة الفيدرالية السويسرية

في عام 1848 ولد الاتحاد السويسري، وظل النظام الكونفدرالي في الأذهان، وظلت التسمية الرسمية لدستور الدولة السويسرية، والذي ما يزال يسمى (الدستور الكونفيدرالي) استصحاباً للاسم القديم الذي بدأ به الاتحاد السويسري .
وأخذ الاتحاد مساراً باتجاه التطور، وفي نهاية القرن تنامت صلاحية الاتحاد باحتكار حق إصدار النقود والحوالات المصرفية، قانون الجزاء، وشرطة مراقبة الحبوب والمواد الغذائية، وكذا قطاع التعليم وفي الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين، شمل التوسع شؤون الملاحة، ضمان الشيخوخة تنظيم سير السيارات والملاحة الجوية، الحياد، نظام معاملة الأجانب، والرسوم والطوابع.
وتعيش في ظل نظامها جماعات متعددة تتعايش فيها بالتوافق، فالسلطات موزّعة ومتآلفة، والامتيازات التي تحتفظ بها الولايات هي أكثر أهمية مما هي عليه في معظم الاتحادات الأخرى، كما أن السلطة تتسم بصفة التداول السلمي المتاح للجميع، إذ إن تدخل المواطنين المباشر معترف به ويمارسه المواطنون بشكل لا يحدث في أي بلد آخر، والسلطة تعتمد أسلوب المشاركة، والجهاز التنفيذي موسع يتبع طريق الإدارة الجماعية، ويشترك على الدوام في أعماله أهم القوى السياسية والأطراف المقيمة في الولايات، بإدارة شؤون الاتحاد.
أنشئت دولة سويسرا الاتحادية أصلاً من أجل تأمين إيجاد سوق مشتركة واحدة، وألغيت الجمارك بين الكانتونات الـ 23، ووضعت تعرفة خارجية مشتركة، وضمنت الجنسية السويسرية حرية تنقل الأشخاص، وحصلت السلطات الاتحادية، علاوة على امتيازاتها في الشؤون الخارجية، والعسكرية والنقدية، على صلاحية توحيد الأوزان والمقاييس وإقامة بنى تحتية وطنية، ومقابل هذه التحفظات، احتفظت الكانتونات بصلاحيات حاسمة في مجال التشريع، في الشؤون المدنية، الجزائية، التجارية، والاجتماعية، وكذلك فيما يتعلق بمهام الشرطة، والعدلية أو التربية.
وفي عام 1874، لم تغير إعادة النظر الشاملة في الدستور نظام الحكم، ولكنها دعمت صلاحيات الدولة الاتحادية، وفي الوقت نفسه أقامت المحكمة الاتحادية، وأقرت قبول الاستفتاء وأسقطت الرأي بالمبادرة الشعبية..وهكذا توطدت أركان ديمقراطية المشاركة مزودة بنظام مبني على التوافق.
والكانتونات تنظّم نفسها وتضع أنظمتها بكل حرية، وفيما يتعلق بهذه النقطة، فإن صلاحياتها الدستورية لا يحددها سوى الالتزام باحترام قواعد الديمقراطية، وبأتباع إجراءات الديمقراطية المباشرة وإقرار دستور إحدى الكانتونات ينبغي أن يكون شعبياً، وإعادة النظر فيه أو تعديله يجب أن تستطيع طلبهما أغلبية من المواطنين.
وفيما يتعلق بتوزيع الصلاحيات بين الكانتونات والكونفدرالية (أي بين الولايات والاتحاد) فإن الدولة الاتحادية ليس لها سوى صلاحية ما ينسب لها من سلطات، وتحتفظ الولايات التي يضمها الاتحاد بصلاحيات الحق العام والمشترك، والصلاحيات غير المسندة للسلطة الاتحادية تعود حكماً للكانتونات، والتي تتمتع بصلاحيات متبقية تسمح لها بالدخول في المجالات العائدة إلى الاتحاد، وعلى هذه الأسس، في سويسرا، كما في الدول الأخرى، يبدو التطور يتجه نحو المركزية.
إن أسلوب الائتلاف والتوافق كالذي تتبعه سويسرا، إنما هو أسلوب نابع من التاريخ والثقافة، ومن الحياة السياسية، قبل أن يدوّن في القواعد والقوانين الدستورية، والنمط السويسري يقضي بجعل البلاد تدار من قبل التحالف بين الأربعة الكبار (الحزب الديمقراطي المسيحي – الحزب الراديكالي الديمقراطي – الحزب الاشتراكي – الاتحاد الديمقراطي الوسط).. إلا أن النظام الانتخابي في سويسرا الذي يعتمد التمثيل النسبي سمح لهذه الأحزاب الأربعة بالتواجد في الهيئة التشريعية السويسرية وتشكيل الحكومة.
وإذا كان نظام الحكم نظام جمعية، فإن الأسلوب ليس كذلك، إذا إن الجمعية الاتحادية لا تجتمع إلا بصورة متقطعة، والمجلس الاتحادي هو الذي يدير فعلياً شؤون البلاد، وأعضاؤه المنتخبون لمدة أربع سنوات، يعاد انتخابهم، ومتوسط بقائهم في السلطة يصل على العشر سنوات، ويلطف مبدأ التوافق بين القوى السياسية، بصورة جدّية، قواعد الاستقلال بين السلطات. والجمعية الاتحادية والمجلس الاتحادي يعملان معاً بكل انسجام.
بعد دراسة النموذج الفيدرالي السويسري، والتعمق فيه يكتشف الباحث بأن قضية الفيدرالية ليست قضية تسميات وهي أوسع من التنظير أو تحديد أطار نظري لشكل الدولة الفيدرالية ، بل يجزم البعض أن النظام الفيدرالي ليس نظاماً قانونياً صرفاً بل هو نظام واقعي يخضع لكثير من التدابير غير المتناسقة في سبيل احتواء نزعة الاستقلال والانفصال وتعزيز مفهوم التعايش السلمي..
واحترام التعددية القومية والدينية هو من أهم مبررات نشوء الاتحاد الفيدرالي السويسري وقد عزز هذا المبدأ بالقرارات القضائية التي صدرت في سويسرا وفي غيرها من الدول الاتحادية، ففي قضية عرضت على القضاء السويسري على اثر نزاع نشأ بين سكان مدينة (Kriessern) التي يسكنها (الغجر) الذين يتحدثون اللغة الرومانتشية و أحد السويسريين الذي انشأ بارا في تلك المنطقة كتب عليه بالايطالية (بار الأصدقاء) وطلب سكان تلك المدينة تغيير اللغة التي كتبت بها اللافتة من اللغة الايطالية إلى اللغة الرومانتشية واصدر القضاء السويسري في تلك القضية قرارا يقضي بضرورة احترام اللغة السائدة في الكانتون وجاء في حيثيات القرار ( إذا تعارضت الحرية الفردية مع الأمن والسلم الاجتماعيين فيجب تقييد الحرية الفردية لمصلحة الأمن والسلم الاجتماعيين ).
التعريف بنموذج التعايش والتعددية واحترام الآخر في سويسرا هو تعريف بواحدة من أهم وأغنى تجارب الحكم الديموقراطي في التاريخ المعاصر هي التجربة السويسرية التي يمتد عمرها إلى سبعة قرون خلت حيث تأسس أول اتحاد سويسري سنة 1291 بين ثلاث دويلات "ولايات / محافظات " انضمت إليها فيما بعد خمس أخرى .
المهم هو استخلاص العبر والدروس من تجربة قادمة من مجتمع متنوع لغويا وقوميا وطائفيا ودينيا ، مجتمع جعل من هذا التنوع مصدرا للثراء والإخصاب الحضاري والاستقرار السياسي والتقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي بعد أن كان مصدرَ شرورٍ وحروبٍ أهلية وإقليمية واضطرابات كثيرة سفك السويسريون خلالها دماء بعضهم البعض ثم انتهى هذا الطور من تاريخهم بقيام دولة اتحادية راقية وحكم قائم على الديموقراطية المباشرة أو ديموقراطية القاعدة كما تسمى أحيانا .
إن هذه الحيثيات المتعلقة بواقع ومواصفات التجربة السويسرية تجعل منها مدرسة ومختبرا تاريخيا جيدا لجميع الشعوب والمجتمعات التعددية وذات النسيج المجتمعي المتنوع قوميا ولغويا ودينيا وطائفيا والطامحة إلى حل مشاكلها سلميا وعبر الحوار والمصالحة والتجريب والتسامح وغير ذلك من تقاليد وأساليب إيجابية أرستها تجارب الشعوب.

مظاهر التفرقة بين الإرهاب والمقاومة

تعريف المقاومة
المقاومة هي كل قولٍِ أو فعلٍ مضاد للاستعمار والهيمنة الاجنبية والاستبداد , سواء كانت بطريق سلمي واتباع الاصول القانونية والديمقراطية أوعن طريق الكفاح المسلح لإرجاع الارض وسلامة العرض وكف الاذى عن النفس والوطن , شريطة عدم جعل الابرياء والمدنيين وقوداً لأي عمل عسكري مسلح...وتكون المقاومة ذات مشروع حضاري إنقاذي للذات او المجتمع.
ونشأت في هذا السياق عقائد وأفكار، يرى حنفي أفضلها تلك التي تجعل العمل من الإيمان، ويرى أيضا أن المقاومة لا تقوم إلا على مفهوم الجبهة الوطنية المتحدة، والجمع بين الفرق، والتعددية على مستوى النظر، والواحدية على مستوى العمل، وأن ثقافة المقاومة تبدأ من الإنسان والمجتمع والأرض والدولة، وتقتضي ثقافة المقاومة فك الارتباط بين أيديولوجية السلطة وأيديولوجية الطاعة. فالمقاومة حركة تلقائية في التاريخ تبدأ من رفض العبودية، كما أنها سابقة على النص.
أن الثقافة عنصر واحد من عناصر الحضارة. فالثقافة تقتصر على العادات والتقاليد والفنون ومنتجات الإبداع الفكري، ولكن بإمكان الدولة الوصول إلى مستوى حضاري دون تحقيق إنجازات ثقافية كبيرة ،ويناقش المقولة السائدة عن اقتراب انهيار الولايات المتحدة بسبب التراجع الأخلاقي والتفكك الأسري وهيمنة الجوانب المادية على الحياة. ومن ثم فإن حيوية الثقافة تتغير وتتناسب مع معطيات العصر ومتطلباته، لأن تغير الظروف والموارد يغيرالثقافات، وبطبيعة الحال فإن ثقافة المقاومة تتغير وتتبدل حسب هذه التحولات المحيطة. إننا بحاجة إلى هوية جديدة تعترف بالتنوع الثقافي والاجتماعي وتعترف بشرعية الاختلاف في إطار تنمية ثقافية من أجل التعايش بسلام في المجتمع الواحد.
اذا ممارسة ثقافة التغيير بدلا من ثقافة التبرير، وإلى التنمية الثقافية التي تساعد على التواصل العقلاني بين الأجيال المتعاقبة، وضرورة استعادة العقول العربية المهاجرة إلى الغرب، والمشاركة في العمل على إنشاء ثقافة كونية أكثر إنسانية تحافظ على كل ما هو إيجابي في الثقافات الوطنية.وقد تعثر المشروع النهضوي لأنه لم يؤسس على التراث العقلاني، وكان أيضا لممارسات القمع السلطوية أثر سلبي كبير على ثقافة التغيير..
العناصر المميزة للمقاومة
ومن فقهاء القانون من وضع عناصر معينة مميزة لحركات التحرر الوطني من غيرها من الحركات الانفصالية او الإرهابية ,ومن هذه العناصر:
1-ان الهدف من حركات التحرير الوطني هو تحقيق التحرر .
2- وجود الاراضي الداخلية او الخارجية التي تسمح للحركات ان تباشر عملياتها العسكرية بمعنى ان توجد مناطق محررة تقيم عليها مؤسساتها الادارية والتعليمية والعسكرية .
3- ان يتعاطف الشعب مع حركات التحرير والمقاومة وتلقى دعما وتأيدا واسعا من المواطنين .
4- يجب ان تتسم اهداف حركات التحرير بدافع وطني يتجاوب ويتلائم مع المصلحة الوطنية العليا وهوما يميز حركات التحرير عن الاعمال التي تستهدف مصلحة خاصة لبعض الفئات من المواطنين أو تنافس أو تناحر للسيطرة على السلطة أو فرض فلسفة معينة . أو الحرب من اجل انفصال اقليم معين أو جزء من الدولة.

بين الإرهاب والمقاومة المشروعة
ومن المهم تمييز نشاطات الكفاح المسلح عن الجرائم الارهابية والحق في المقاومة وتقرير لمصير وفقأ لمبادئ القانون الدولي غير أن ذلك لايسمح مطلقأ لتفسير الانتهاكات التي تقوم بها بعض الجماعات على اعتبار انها اعمال مقاومة لمخالفتها للمستقر في الاتفاقات والمواثيق الدولية من شروط الاعمال الكفاح المسلح خاصه ما يتعلق بأحترام تقاليد الحروب وأعرافها وعدم الاعتداء على المدنيين ومن لايشاركون مباشرا أو يكفون عن الاشتراك في العمليات الحربية .
يختلف الإرهاب عن أعمال المقاومة المشروعة من عدة جوانب يمكن إدراج أهمها على الشكل التالي :
1- إن المقاومة المشروعة لها طبيعة عسكرية شعبية وغطاء شرعي , في حين أن الإرهاب رغم إمكانية أخذه للطابع العسكري, إلا أنه غير شعبي ولا يكتسب الشرعية المطلوبة المتفق عليها...أي أن عملياته لا تحظى بتأييد شعبي حتى لو كان هناك تعاطف مع القضية التي تكافح من أجلها جماعته.
2- كما أن المقاومة تتصف بالوطنية , وهذا الوصف هو يتعلق بالإقليمية في ممارسة هذه الأعمال أي أنها تباشر داخل إقليم الدولة المحتلة , في حين أن معظم العمليات الإرهابية تتصف بالدولية.
3- الإرهاب هو هدف غير واضح وغير محدد, ثم يستوي أن ينال الإرهابي هدفا مدنيا أو عسكري, فهو في نهاية المطاف عمل انتقامي غير مشروع موجه لوجهة غير معلومة وغير محددة , أما هدف المقاومة المشروعة أو الكفاح المسلح فهو عموما الأمكنة والتقنيات العسكرية.
4- مؤدى ذلك أن عمليات المقاومة تهدف إلى إزالة الاحتلال أو الاستعمار الذي تفرضه إحدى الدول أو الشعوب على غيرها بعد تحقق مفهوم الاحتلال بشكل واضح وبدون بروتوكولات او معاهدات بين الحكومات المحلية والدول الاجنبية فيما هدف العمليات الإرهابية , يظل غالبا غير معلن يرتبط بالحصول على السلطة .
5- تعتبر عمليات المقاومة اذا ما توفرت كافة شروطها التي تقوم بها حركات التحرر الوطني ضد المحتل أوالمستعمر-بعد وضوح تحقق مفهوم الاحتلال وبدون اذن سلطات ذلك البلد- عمليات مشروعة لأنها تمارس بحق قانوني دولي مشروع وهو حق الشعوب غير قابل لتصرف في تقرير المصير والاستقلال، في حين أن الإرهاب الدولي لا تعترف بمشروعيته المواثيق الدولية , بل تدينه بجميع أشكاله أي كان مرتكبها وأيا كانت صفته.
6- ويمكن اضافة فرق سادس يتمثل بكون المقاومة لها سعة في المفهوم وبدائل في الاساليب وتنوع في الممارسات تشمل حتى السلمية ..بينما الارهاب ليس له الا خيار واحد هو العنف .
ومن خلال ما تقدم يظهر بجلاء المشروعية الأخلاقية والقانونية لكفاح الشعوب فعمل المقاومة المشروع هو ذلك العمل الذي يستند إلى أحكام القانون الدولي (خاصة اتفاقيتي جنيف لعام 1949 والبروتوكولين الإضافيين الملحقين بهما ولا يمتد إلى الأنشطة التي تمارسها بعض المجموعات التي تقوم فلسفتها على ممارسة الأعمال الإرهابية ضد المدنيين من نساء وأطفال ومواطنين أبرياء عزل, ومن خطف لطائرات وأخذ الرهائن , فالعنف الذي يأخذ مثل هذه الصيغ التي تتنافى مع الأخلاقيات الإنسانية, لا يمكن أن يعتبر مطلقا عملا مشروعا وشرعيا ولا أخلاقيا, بحيث لا يمكننا تبريره مهما كان وأيا كانت دوافعه , فالغاية لا تبرر الوسيلة والعمل غير الإنساني لا بد من إدانته وإن كانت بواعثه.

التحولات العصرية وقيم الحوار

فيما تتعقد أشكال الحياة من حولنا وتتراكم الخبرة المعرفية والعلمية فوق مظاهر الحياة في عالمنا حتى غزت المنتجات كلّ بيت وكلّ شعب وكل بقعة من الأرض بل وحتى غرف النوم!
فنحن اليوم نعيش في عالم متحوّل ملتهب بالاكتشافات والتقليعات الثقافية والاجتماعية، منبهر بثقافة المشاهدة ومنتجات العلم الحديث، مسكون بالصراع أو الحوار، متطلّع للمعرفة والانفتاح...
والقضيّة خطرة جداً، اذ لا يمكن العيش خارج العصر، كما لا يمكن التحوّل إلى جزء من الأزمة ذاتها. وكثيرٌ من أولئك الغارقين في متاهات الحياة العصرية، والمنفعلين بثقافة منتجاتها التي تسرّبها تلك الدول المنتجة لها، هم قلقون حائرون مفتونون، ليس لهم هدف حقيقي يُستقى من روح المقاصد الانسانية وطبيعة تفكير الانسان ..
فالقضيّة تحتاج الى مواجهة، أي نقد وتحليل وتأطير وتوظيف وتصريف وتوجيه وحوار، وإلاّ فهي تفضي إلى السقوط او الخروج من العصر..
والتحولات الراهنة لاتحث على العمل للدنيا فقط ولا على الفعل الميكانيكي المحسوم من حيث نتائجه، بل يؤكد على نوعية خاصة من العمل لها القدرة على إستشراف ما يأتي من الزمان والتحكم به كما لو كان الإنسان خالداً..في سياق عملية جادة وواعية لجلب انتباه الإنسان للزمن الذي يحتضن حركته. وفيما يمر منه وما يأتي يتشكل وعي الإنسان وبناؤه الحضاري وفعله الاجتماعي.
من هنا يتحتم انتهازه كمادة للإبداع الإنساني (أما الطريقة أو الوسيلة فهي تجربة ذات دلالة أي تخمين الشكل أو العمل الذي يحمل الفكرة والبدء بعد ذلك في البحث عن فكرة داخل مُعطية ملموسة).
هذا على صعيد الواقع أمّا على الصعيد النفسي؛ فحينما نقرّر أنّ النفس مصدر الإشعاع الحضاري فكراً وسلوكاً ومنهجاً وموقفاً وإبداعاً، تظلّ هي نقطة الانطلاقة وبؤرة أيّة صيرورة حضارية...
فتعقّد أشكال الحياة وتعقدها المستقبلي الأشد، لا يلغي دور النفس وفاعليتها كبؤرة لصنع القرار وتنضيج المواقف الكبار التي تخلق الحدث وتطوّر الفكر، ليتشيّد المجتمع المنشود على أساس متين من الفكر والسلوك..
إنّ التكنولوجيا مهمّا أفرزت من نتاج يبقى مفصولاً عن الوعي الذي لا تنتجه المصانع، بل هو متمركز في الإرادة الذاتية للإنسان ومحركاتها النفسية والآيديولوجية، دون أن تستبطن هذه النظرة ـ بالضرورة ـ أدلجة المواقف وتأطير الإبداع...
انّها نظرة تمازج بين وعي العصر ومواجهته ثقافياً وحضارياً وبين ضرورة الالتزام بمبدأ الموجّهات الشرعية الكفوءة، فالمتعامل مع أيّ تقنية حديثة والباحث أو العالم في أيّ مجال معاصر، لا زال مشمولاً بالنص القرآني ومنضوياً في قصدية الخطاب المرسل الى الأمة .
اما الآليات والوسائل أمر متروك للممارس..المهم هو التحرك..لأن الذي يأتي من الزمان هو الذي تناله حصة الاستعداد، أما ما مضى منه فلن يعود بنفسه، بل يصلح لأخذ العبرة واكتشاف القيمة منه باعتبار أن مادة الصراع نفسها تعود بأشكال مختلفة في المستقبل، الأمر الذي يدعونا للاستعداد من أجل صراع قادم ونهضة جديدة في الزمن الآتي.
والزمن القادم تحكمه سنن مضطردة ينبغي الوعي بها وبكيفية التعامل معها والإستعداد لها، وكل من بلغ مرحلة الوعي المنشودة، فهو بشكل تلقائي يتحرك للقائها ويستعد لمفاجآتها.
ينبغي التأكيد باستمرار على قيمة المستقبل وافراز نتائجه بالتصور والحدس والعملية العقلية المسماة في نصوصه بـ(النظر) أو (البصيرة)، ليعلم الإنسان من الآن كيف يواجه الأمور القادمة ويوجهها باتجاه مصالحه العليا ومبادئه الأخلاقية، وإلاّ تخلف الإنسان عن زمنه القادم لغفلته عنه وجهله بمساره الذي يلوح في الأفق.
وفيما يدعو الجانب القيمي بفهمه العقلاني إلى استنطاق الأمور القادمة بما يتمتع به الإنسان من قوة عقلية حاضرة، فهو مكلف من الآن للنظر فيها وتدارك موقفه الصحيح حينها؛ واذا كانت الدراسات المستقبلية المعاصرة تؤكد على ثلاثة مستويات كبرى لعوامل التطور:
1ـ تيار التطور الذي يسير بتاثير عوامل لها استطالاتها بحيث يمكن توقع نتائجها إلى حد معين.
2ـ الأحداث التي تأتي ولادتها نتيجة إقترانات مناسبة في ظروف غير مناسبة فتتدخل بصورة سيئة في نتائج التوقعات الدقيقة والتي طرحت مسبقاً قبل وقت طويل.
3ـ العبقرية والإرادة الإنسانية، والتي تشكل عاملاً مستقلاً يستطيع التأثير بقدر معين سواء على مسيرة التطور أو على الأحداث ذاتها .
من أجل التنبؤ بأنظمة المستقبل والتخطيط للتعامل معها أو استباق مناهجها المثمرة على صعيد الواقع، فإن الواقع يرصد هذه المستويات الثلاثة الكبرى للتطور؛ فيجعل تيار التطور فيما يرتج من الأمور على الإنسان، والعبقرية والإرادة الإنسانية في تدارك النفس والنظر لها.
لكنه يتجاوز ذلك المستوى الثالث أي كون الأحداث مما تتدخل بصورة سيئة في نتائج التوقعات الدقيقة حتى وان طرحت قبل وقت طويل، لأنه يخبر عن قطع ويقين بصورة مواجهة الأحداث ونتائجها، ليس لأنه يرى ماوراء الواقع ويُخبر عن الغيب... بل لأنه بصدد تأسيس قاعدة كلية في مجال المستقبليات وفي حقلها الاجتماعي بالتحديد.
فيما ينبغي أن يختط المنهج قواعد عامة للتعامل الاجتماعي والثقافي سواءً للمجتمع ذاته أو للتعامل مع مستجدات العصر الفكرية والتكنولوجية، ويترك الغوص في الوسائل والآليات العملية والإحصائية المتغيرة للمشتغلين بها. وعليه تكون نتائجه المتوقعة والمنهج الذي يختطه للتعامل مع المستقبل، نتائج ومناهج ثابتة تقريباً، وإن كانت مفاصل الواقع وأحداثه ومستجداته متحوله ومتغيرة..
انّ مواجهة الغزو الثقافي هي عبارة عن كيفية التعامل مع واقع متطور فكرياً وتكنولوجياً يزحف إلى عمق بلادنا وداخل بيوتنا بذريعة التمدين وحجّة التطوير. وهي ذريعة تحمل وجهين: أحدهما صحيح وعلمي وواقعي وضروري، والآخر باطل سياسي استعماري يعكس إرادة هيمنة الدول (المتقدمة) على باقي حضارات الشعوب ومسخ هوّيتها...
فما كان صحيحاً وعلمياً وواقعياً وضرورياً، يؤشّر ضرورة الانفتاح عليه ولزوم التعاطي معه . وما كان غير ذلك فيؤشّر ضرورة مقاطعته وتجنّب التعاطي معه .

المنشأ السياسي للانقسامات والصراعات في العراق

ليس العيب في أن تعتمد أنظمة سياسية معينة إذا ما كانت خلفية ذلك إجرائية ، تفرضها شروط تمذهب مجتمع أو انتماء أغلبيته لذلك المذهب مع الحفاظ على الوضع مفتوحا تجاه المختلفين ، وأيضا في تأمين حقوق الأقليات في إطار سياسة وطنية متسامحة ومنفتحة على الآخر.
والأمر يصبح تخريبيا مدمرا حين توظف المذهبية في ممارسة القمع، اذ يصبح الأمر مدعاة للصراع . فيكون الإشكال هنا في السياسة والتدبير لا في اعتماد الأساس الديني أو المذهبي في حدود الأجراءات والأحوال الشخصية.
ان منشأ الصراع اذن هو سياسي.. وهنا تصبح المسألة رهينة للإرادة السياسية، وهذا ما لم تظهر معالمه حتي اليوم، فسياساتنا تتخبط في أزمة بنيوية وهي غير قادرة على تقديم رؤية أو مشروع لحل مشكلات خدماتية لجماهيرها .
وإذا كانت السياسة تلعب دورا سلبيا في الصراع المذهبي ، فحتما سيكون الاقتصاد والإعلام والثقافة وكل ما يقوم الدولة، طرفا في هذا الصراع وعامل تكريس وتأبيد لمفاعيله.
يواجه الفكر السياسي العراقي ، معضلات مفهومية تخص البناء الاجتماعي ، وما فيه من أحداث ووقائع ومشكلات بنائية، متنوعة متعدِّدة في مضامينها وأسبابها الاجتماعية.
ولم يتعامل التعامل الكافي مع الظواهر البنائية السليمة أو تلك التي تستوفي شروطها في مستوياتها الوطنية.. وكما هي بين الناس في حياتهم اليومية.. وفي نحل المعاش ، على حد قول ابن خلدون.
بمعنى أنه لم يلتفت كثيراً الى الظاهرة المجتمعية التي تفعل فعلها في إثارة العداوة والكره والانشقاق والانقسام داخل المجتمع، فتزيده انشقاقاً وعداءً كما أنه لم يُوَظِّف العلم الاجتماعي والانثروبولوجيا في دراسة وتحليل وتفسير هذه الظواهر وفعلها في الحياة العربية على ضوء حقائقها، مثل ظاهرة الجهوية والقَبَليَّة والطائفية والنزعة القطرية، في سياق نزعة الالتحام والانقسام وامتداداتها داخل الأسرة والعائلة والقرية والقبيلة، والحي والمدينة.
ولم يلحظ تأثير ظواهر من قبيل؛
• النفاق بكل مضامينه وأشكاله وألوانه السياسية والاجتماعية.
• وظاهرة الاتباع والمريدين. وظاهرة العداوة وأسبابها وتجلياتها، وما يتمخض عنها من كره وعداوة سياسية واجتماعية.
• وإشاعة الغش بكل مضامينه.
• ثم ظاهرة الاستبداد التي تبدأ في الأسرة وتمر بالعائلة والعشيرة والقبيلة وتصل إلى الأحزاب وتنتهي بالسلطة.
• وظاهرة التغير الثقافي بحيث تعرف ما تخلت عنه الثقافة وما اكتسبت وفعل قيم الماضي وأعرافه على سلوك الفرد والجماعة والمجتمع. وما تأمر به وتنهي عنه.
• ثم مستوى الوحدة والاختلاف والتناقض بين القديم والجديد، وآثاره على ظاهرة الازدواج الثقافي على حد تعبير الدكتور على الوردي.
• وظاهرة الوصولية وتجلياتها في سلوك الناس السياسي، وخاصة داخل الأطر السياسية .
• وظاهرة الوجاهة في القرية والحي والمدينة ، وما لها من محددات ثقافية واجتماعية، وحضورها في شخصية السياسي والعسكري ورجل الفكر. ثم ما بين سلوك الوجيه والسياسي من وحدة وتناقض وافتراق. وما إذا كان الوجيه داخل إطار محدداته الثقافية العائلية - الأهلية، هو الذي يقود السياسي ويجعله على صورته في سلوكه الاجتماعي والسياسي أم العكس هوالصحيح؟
ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا إنَّ تجاهل تلك الظواهر شكلت معلماً واضحاً من معالم الفكر السياسي والحزبي العراقي في بداية تشكيله ولحد الان ، مع أن هناك دراسات أكاديمية سوسيو - انثروبولوجية عن تلك الظواهر، كان بإمكان الأحزاب العراقية ، بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق، الاستفادة منها وقراءتها قراءة حديثة ، من أجل معرفة ما هو مشترك بينها وما هو متنوع.
وأيضاً معرفة أسبابه، على ضوء ما تسميه الانثروبولوجيا السياسية "الخصوصية الوطنية" التي تضفي على هذه الظواهر قسماتها الثقافية وفلكلورها الشعبي. علماً أنَّ الخصوصية الوطنية لا تتنافى أو تتعارض مع بعدها الحزبي في الاساس والمبدأ، لأنَّ الحزبية تساوق الوطنية في بداية تأسيس الاحزاب العراقية وتأريخها كما مر بك في بداية البحث.
وهذا الانقسام الحزبي- المجتمعي ،الذي حصل فيما بعد يحيلنا ووجهاً لوجه إلى دراسة ظاهرة الانقسامات في الأحزاب نفسها مع انها تحمل اهدافا وطنية واحدة. لما لها من آثار سلبية مُدَمِّرة في الحياة العراقية الجديدة، وخاصة على وحدة الشعب العراقي الذي يشكل لازمة للتقدم واستكمال التحرر من التدخل الخارجي، كما حقق التحرر من الاستبداد والدكتاتورية داخليا...
و ظاهرة الانقسام والعداء هي ظاهرة ثقافية بنائية يقوم الاتجاه الوظيفي بالتعامل معها على أساس فكرتي (البناء) و(الوظيفة) اعتماداً على قاعدة منهجية انثروبولوجية ترى: (... أن سمات الثقافة أيا كانت بدائية أم حضرية ليست من الأجزاء المبعثرة. وإنما تقوم مكونات الثقافة بإسنادها إلى وحدة من العناصر الثقافية المتكاملة، التي تتجمع في كل "متكامل" لا تناثر في عناصره أو تباعـد في سماته، بالنــظرة إلى الـثقافة كوحـدة عضوية "Organs Unit" يرتبط كل عنصر فيها بسائر العناصر والأجزاء الأخرى).
غير أنَّ الاتجاه الوظيفي لا بد أن يتضافر مع المنهج الأنثروبولوجي التحليلي الذي يبدأ مهمته التحليلية من خلال قاعدة تقول: إنَّ ظاهرة العداوة ظاهرة ثقافية بنائية موجودة في كل الأقطار العربية، ومستندة إلى تراث ثقافي فيه من قسمات المجتمع الأهلي ما فيه من قيم وأعراف وتقاليد وسنن الضبط الاجتماعي.التي تحسب على المجتمعات الأهلية التي لم تتخذ ما يلزم من تحولات جذرية قاعدية أو تحتية حتى تتحول إلى مجتمعات مدنية.
وبما أنَّ ظاهرة الانقسام وما يتبعها من عداء موجودة في الدول العربية فإنَّ لها تلاوينها ومحدداتها الثقافية التي تٌلَوِّنها بألوان محلية - جهوية وإقليمية وطبقية. ومع ذلك فإنّ ملاحظة الفعل الداخلي لها ملاحظة مباشرة تفيدك بأنَّ ما بين هذه الألوان مستويات من التداخل والتأثير المتبادل، مع الاحزاب والتشكيلات السياسية الموجودة داخل البلاد العربية ومنها العراق، وهذا يجعلك ترى أن هناك الكثير من التوافقات والمشتركات بين التشكيلات السياسية لدول العالم الثالث، في فعل العداوة، أي وظائفها داخل المجتمع الشرقي.
ان كافة أنماط الانقسامات والتحولات والصراعات المتفجرة قيمياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً إنما هي تعابير عن صراع الهوية السياسية للدولة المراد إنتاجها، وهي تجلّي لحرب هويات عرقية وطائفية ومناطقية وجهوية خاصة ، بغية كسب معركة الهوية السياسية للمجتمع والدولة لصالح هذه الهوية الفرعية أو تلك،..
وروح هذه الرابطة الكلية المسماة بالدولة هي الهوية التي تمثل حاصل التمازج والتناغم والإتحاد لعناصر الدولة الأربعة، وكلما تمازجت وتناغمت واتحدت هذه العناصر بعضها ببعض في الوعي والثقافة والتشريع والتطبيق.. كلما قويت الدولة وتجذّرت، من هنا فبقاء الدولة مرتبط بفاعلية الهوية وقدرتها على البقاء والتجدد والتطوّر.
فالمنشأ الحقيقي لهذا الصراع والانقسام هو سياسي بالدرجة الاولى ، ونريد به إنتفاء الشرعية للسلطة السياسية في بلادنا طيلة الفترات الدكتاتورية المتعاقبة ، كونها لم تنبثق من خلال الإرادة والإختيار الحر للأُمّة العراقية ، فأنتج ذلك حالات التسلّط والقهر لتدخل السلطة في صراع مع مجتمعها والمجتمع مع سلطته.
من جهة أُخرى ، فإنَّ:
• احتكارها للدولة والحكم دون أدنى مشاركة سياسية أو شعبية حقيقية .
• استخدامها المفرط للقوة والسحق لمعارضيها .
• فرضها لإيديولوجيتها بالقوة على حساب مقومات الأصالة والتكوين الطبيعي للمجتمع العراقي.
• تقنين الحياة العامة وفق رغباتها وبرامجها السياسية والإقتصادية والمجتمعية.
• تخطيطها وفعلها الدائم في خلق صراعات تحتية بين مكونات المجتمع بين ما هو شيعي وسُنّي وكردي وعربي لضمان سيادتها من خلال منطق فرّق تسُد.
• خلقها للصراعات الخارجية الوهمية وما تُنتجه من مفاسد وكوارث على حساب الإستقرار والأمن والتنمية.
كل ذلك أوجد صرعات متعددة ومعقدة للواقع الداخلي والخارجي للبلاد ..وأنتج أفدح الصراعات الدموية في كيان الأُمّة العراقية والذي ولّد بدوره العديد من حالات الكوارث المُنتجة للصراعات على تنوعها السياسي والإجتماعي والإقتصادي والذي أصاب كياننا العراقي في الداخل والخارج بأفدح الخسائر.
ويمكن أن نُشير فقط إلى التدمير الشامل الذي أنتجته الصراعات العسكرية الخارجية مع دول الجوار والعالم ، وهي جزء من تصدير أزمته إلى الخارج لإحكام الطوق الداخلي ، وجزء من استراتيجية إضعاف وإنهاك المجتمع داخلياً للحيولة دون قيامه ، وجزء من سياسية خلق الأعداء الوهميين لضمان البقاء والنفوذ والتفرد في السلطة والقرار.
إنَّ إشكالية المنشأ السياسي للصراع والانقسام وما ينتج عنها من صراعات وانقسامات نوعية أُخرى تعود أساسا لإشكالية إغتصاب السلطة والتفرد بالقرار والإدارة الرسمية لعموم التجربة السياسية العراقية فيما سبق ، على تنوعاتها دون أدنى مشاركة أو تبادلية أو تداولية في قضايا الحكُم وتسيير الأمور العامة للبلاد ، وهي إشكالية الشرعية والتمثيل الصادق والحر للإرادة الجماهيرية التي بدأت بالانحسار ماأن فسح المجال للارادة العراقية الحرة بعد سقوط النظام الدكتاتوري.

يعتقد البعض أن سقوط النظام الدكتاتوري وانهيار دولته كان فرصة تاريخية للشروع مجددا ببناء دولة عراقية حديثة، تحقق الاندماج المجتمعي وتبني امة/شعبا عراقيا على اساس هوية وطنية مشتركة، تجذر مفهوم المواطنة. لكن قد اجهض مشروع الدولة الحديثة بسبب:
• الانزلاق السريع نحو الهويات الفرعية، من قبل المجموعات التي دخلت الحكم.
• والانزلاق السريع نحو العنف المسلح من قبل الجماعات التي ظنت انها خرجت من لعبة الحكم.
• فضلا عن عوامل داخلية و خارجية اخري.
واقام بدلا منها سلطتين الاولي رسمية، منقسمة عموديا ، الامر الذي تجسد بنظام المحاصصة الطائفية بكل شيء.
والثانية غير رسمية، تعبر عنها الجماعات المسلحة، الارهابية رغم شعار المقاومة الذي ترفعه، في مناطق نفوذها العملي او المفترض.
لكن الحقيقة انه ليس من الصحيح ان نتوقع ان تتفق مفردات كل مكون من المكونات الرئيسية للمجتمع العراقي الثلاثة (الشيعة والسنة والكرد) على خيار واحد بعينه، لسبب اساسي وهو ان كل تكوين من هذه التكوينات لا يمثل جسما متجانسا من حيث المصالح والثقافة والوعي السياسين والانتماء الحزبي.
لقد ساد الانتماء الفرعي (العرقي او الطائفي) بعد سقوط النظام الدكتاتوري لأن الطبيعة القمعية لهذا النظام لم تسمح بالتطور السياسي للمجتمع العراقي ان يواصل حركته باتجاه قيام احزاب وطنية تتجاوز العضوية العرقية او الطائفية، مع وجود استثناءات قليلة برهنت الانتخابات الاخيرة على دورها الثانوي في تشكيل الحياة السياسية العراقية.
أغلب المحاولات البنائية للهوية السياسية قامت على أسس منقطعة عن استحقاق الدولة الوطنية، ومعظم النُخب العراقية في أنماطها السياسية والدينية والثقافية والإقتصادية كانت نخباً مؤدجلة على النقيض من المباديء الوطنية في عمق ثقافتها وقرارها، والأدهى أنها على صعيد الممارسة شكّلت نخبوية جهوية لم تخرج في الأعم الأغلب عن أطر الهويات الفرعية الضيّقة من قبيل العِرق والطائفة والقبيلة والعائلة، ولم تنجح في تأسيس هوية مدنية وطنية تجمع بين أصالة التكوين الذاتي لمكونات المجتمع وبين الإنصهار في الجماعة السياسية الكلية المُشكّلة للدولة.
وأيضاً وفي فعلها الضيق المتأثر بالإنتماء الخاص العرقي والطائفي والسياسي والمناطقي أدّت إلى ترسيخ الهويات المجذرة للإنتماءات والولاءات الضيقة، الأمر الذي أفرز الإنقسام والتصدع والتصارع الوطني بين مدارس وتيارات الوطن الواحد.
ونموذج لذلك تأتي الصراعات الطائفية (بين ما هو شيعي وسُنّي)، والعِرقية (بين ما هو عربي وكُردي وتركماني..) كإنموذج لإستدعاء فعل الذاكرة التأريخية في التعاطي مع واقع الهوية الحديثة.
وكذلك اعتماد سياسات استبدادية في عمق البناء الثقافي والسياسي والحضاري للدولة الحديثة ومحاولة حمل الدولة ومكوناتها على أساس منها، من هنا تم إقحام الدولة في مناهج وخصومات خاطئة أتى على حساب استقرارها وتطوّرها،.. لقد أُريد للدولة العراقية الإمعان في السحق لحقوق الإنسان والجماعات فتصادر المواطنة والحريات، وأُريد لها شرعنة التمايز لتقضي على المعايير الوطنية الشاملة والعادلة والمتكافئة لأبناء الوطن الواحد، وأُريد لها أن تُطحن في رحى الحروب لتطلّق التنمية والتطور والإزدهار. لقد أتلفت هذه المناهج الدولة من الداخل بفعل عوامل الفساد والظلم والجهل والإجترار والسَلبية.
ليست العوامل الخارجية هي من أوجد المادة الأولي للصراع المذهبي والطائفي في العراق. لكن العامل الخارجي يحضر هنا كمحرض وموجه يستغل كل مواقع الضعف في المجتمع لتحقيق استراتيجيا أخري لا علاقة لها بنا كشعب بقدر علاقتها بمصالح وسياسات متعلقة ببلدنا كأرض.
إن خطر العامل الخارجي يتضاعف هنا إذا ما وجد الفراغ السياسي ، أي انعدام تدبير أمثل لأوضاعنا ومشكلاتنا، فالدول الاستعمارية والمهيمنة تعاني هي الأخري من التعددية والطائفية .وهي تحاربنا بجيوش متعددة الأعراق والمذاهب والطوائف والألوان لا توحد بينهم سوي الوطنية وخدمة العلم... ولكنها تستغل ضعفنا وغياب الانفراج السياسي الذي وحده يؤمن الدولة من احتقان المجتمع وتمكين العامل الخارجي من استغلال الورقة الطائفية والمذهبية.
ولا يخلو أيّ مجتمع، مهما كان حجمه، من عوامل انقسام، مثلما تكمن فيه أيضاً عناصر وحدة. إنّهّا سنّة الحياة في الجماعات البشرية، منذ تكوّنها على أشكال تكتّلات عائلية وعشائرية وقبلية وصولاً إلى ما هي عليه الآن من صورة أممٍ وأوطان.
لكن المحطة المهمّة في مسيرة تطوّر الشعوب، هي كيفيّة حدوث التغيير والتحوّل فيها، كما هو السؤال عن طبيعة الانقسامات وأطرافها. أي، هل الانقسام هو على قضايا سياسية؟ اجتماعية واقتصادية؟ أم هو تبعاً لتنوّع ثقافي/أثني، أو ديني/طائفي؟
فكلّ حالة من تلك الحالات لها سماتها التي تنعكس على تحديد ماهيّة الأطراف المتصارعة وأساليبها وأهدافها.
إنّ المشكلة هي ليست في مبدأ وجود انقسامات داخل المجتمعات والأوطان، بل هي في انحراف الانقسامات السياسية والاجتماعية إلى مسارات أخرى تُحوّل الصراع الصحي السليم في المجتمع إلى حالة مرضية مميتة أحياناً، كما يحدث في الصراعات السياسية والطائفية والقبلية.
ان كثيرا من المجتمعات شهدت وما تزال حروباً أهلية على أسس طاثفية وأثنية وقبلية. كذلك مرّت القارّة الأوروبية بهذه المرحلة، وكان ما شهده العقد الماضي من حرب الصرب في يوغسلافيا ومن الأزمة الأيرلندية هو آخر هذه الصراعات، رغم التحوّل الكبير الذي حصل في أوروبا وفي أنظمتها السياسية خلال القرن العشرين.
إنّ الفكرة الأساس هنا، هي أنّ عوامل الانقسام ومظاهره ستبقى قائمة في أيِّ مجتمع مهما بلغ هذا المجتمع من تطوّر اجتماعي وسياسي ومن تفوّق علمي وحضاري، لكن المهم ألا تكون عناصر الانقسام السائدة فيه هي ما يدفع إلى حروب أهلية بدلاً من تغيير سلمي يحقّق أوضاعاً أفضل للحاضر وللمستقبل معاً.
فالتعدّدية بمختلف أشكالها هي سنّة الأرض، والطبيعة تؤكّد تلك الحقيقة في كلِّ زمانٍ ومكان. لكن ما هو خيار بشري ومشيئة إنسانية هو كيفيّة التعامل مع هذه (التعدّدية) ومن ثمّ اعتماد ضوابط لأساليب التغيير التي تحدث في المجتمعات.
فليس المقصود هو أن تتوقّف كل مظاهر الانقسام في المجتمع... لكن المقصود هو أن تأخذ الصراعات السياسية والاجتماعية أولويّة الاهتمام والتفكير والعمل بدلاً من الصراعات التي تجعل الفقراء مثلاً يحاربون بعضهم البعض فقط لمجرّد توزّعهم على انتماءات أثنية أو طائفية أو قبلية.
فحينما يطالب شعب ما في أيِّ بلد بالعدالة السياسية والاجتماعية، تصبح حركته قوة تغيير نحو مستقبل أفضل، بينما العكس يحدث إذا تحرّكت الجماعات البشرية على أساس منطلقات أثنية أو طائفية، حيث أنّ الحروب الأهلية ودمار الأوطان هي النتيجة الطبيعية لمثل هذا التحرّك التخريبي.

أزمة الخطاب الليبرالي المعاصر

ظن الكثير أن عقد التسعينات قد مهّد للمثقفين والكتّاب مراجعة الأفكار والطروحات السياسية الشائعة، ولكن ككل مرة حدثت جملة من المراجعات من كافة ألوان الطيف الفكري لم تفض في أغلبها إلا إلى قراءات هامشية، مع استمرار روح السخط واتساع الهوة ما بين الهويات المتنازعة في المنطقة، رغم الإسهامات المتواضعة في الفكر العربي المعاصر إلا أنه لا يزال لدينا نقص كبير وواضح في الفكر السياسي المعاصر.. هناك فجوة كبيرة بين ما يكتب في الصحف والكتب العربية عما هو سياسي، أو ما يفترض أن يكون سياسة، وما بين الممارسة السياسية التي تجرى على أرض الواقع، انطلاقا من قناعة بعض الكتاب العرب والاسلاميين الذين يفخرون بأن ما سطره رواد النهضة وقادة الاصلاح ما يزال صالحا لوصف الأحداث الراهنة، وتحليل المشكلات الراهنة .
ولعل الباحث يقرّ بأن أفكار "المجتمع المدني"، و"حقوق الإنسان"، و"الديمقراطية" قد لقيت رواجا منذ ذلك الحين، ولكنها لم تبارح إطاراتها النظرية، بل البعض يحاول تطبيق هذه المفاهيم حسب طريقته وليس حسب نموذجها الغربي، ولهذا حولت بعض هذه المفاهيم بديلا للشعارات الثورية مع بقاء ذات الممارسة الفوضوية التي لا تحترم القانون، أو النظام العام، أو تؤمن بالتسامح الحقيقي. على الرغم من وجود جمعيات ومنظمات لها إسهام منظور ومتعاظم مهتمة بتبيئة هذه المفاهيم إلا أنها تفتقر إلى لغة خطاب سياسي متطور وواع، وأكثر قياداتها هم من اليسار العلماني الذي يقف موقفا حاداً ضد السلطات المحلية.
تنتمي الثقافة الليبرالية في تأسيساتها و آلياتها الى انماط (تفكيرية) وايديولوجية ارتبطت بمنظومة واسعة من المفاهيم التي اقترنت ايضا بالتحولات الكبرى في الغرب بدءا من تشكلات ما بعد الثورة الفرنسية، وتفكك خطاب الهيمنة الكنائسي ومهيمنات الثقافة البطرياركية في مشروع الدولة الاوربية التقليدية ، وصولا الى ظاهرة نشوء الاحزاب الجديدة (لديمقراطية) ذات النزعات الليبرالية والتحررية و التي تبنت معطيات ما تمظهرت من بنيات فكرية وثقافية وايديولوجية ، اسهمت الى حد ما في نشوء ظاهرة (المجتمع السياسي) في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى ،التي وجدت مظاهرها في انهيار انماط الثقافات المركزية !! وتفكك البنيات الاقتصادية والسياسية التقليدية التي ارتبطت ازماتها بازمات الكساد الاقتصادي الذي اجتاح الغرب الاوروبي واميركا في بداية القرن الماضي، فضلا عن نشوء ملامح العودة الى مفهوم الدولة القومية القوية والذي وجد مظاهره في ايطاليا والمانيا واليابان وروسيا التي سعت الى مركزة مفهوم هذه الدولة عبر السيطرة على قوميات اخرى بحثا عن شكل الدولة القوية..
ومفهوم الليبرالية في الاطار التعريفي يقترن بوجود ديمقراطية نيابية تكون السلطة السياسية فيها مقيدة بدستور الغاية منها حماية حقوق الافراد في المجتمع وتسمى بـ(الحرية لدستورية) كما تعرفها الموسوعة الحرة ،حيث تجد في الديمقراطية الليبرالية تطبيقات اجراءات تستند الى مفاهيم التسامح والتعددية والتي تسمح بتعايش وجهات النظر المختلفة وان يكون التنافس على تسلّم السلطة السياسية في اطار المجتمع، لذلك فنشوء اوليات الخطاب الليبرالي كانت بالاساس هو السعي لمواجهة نشوء هذه الدولة الطاغية ذات المركز العصابي وانماط ثقافاتها القهرية.
فضلا عن ان اليات الفكر الليبرالي كانت تسعى ايضا للبحث عن فضاءات للتفكير الحر والقيم الانسانية العالية مثلما اقترنت ايضا بالبحث عن آليات اقتصادية متحررة تسهم في حراك رأس المال وخلق ثورة جديدة في انظمة الاستثمار الحر مثلما اسهمت في ترسيخ قيم حية وفاعلة للاقتصاد المتحرر من الضواغط التقليدية عبر صياغة مفاهيم متجددة وغير مقيدة للسوق والتبادل الاقتصادي ،والاندفاعة القوية لرأس المال الاقتصادي والسياسي والذي وضعها امام شكوك متعددة تنطلق من انها تمثل احد مكونات ماسمي في الادبيات الماركسية بالامبريالية الاقتصادية ، والتي انعكست معطيات تحولها فيما بعد على الواقع الثقافي والسياسي في العالم، اذ تكرست مشاريع ونظم وجدت اشكالها في اطر صراعية عقدة لكنها اكثر حراكا ،ومهدت لتحولات اقتصادية وسياسية اكثر استعدادا للتغايروالانفتاح على مجمل الخطابات الثقافية المختلفة مثلما بالمقابل ايضا اسهمت في تهيئة العوامل الموضوعية للكثير من الحروب والاحتلالات والكوارث التي طالت الشعوب تحت يافطة اعادة انتاج منظومة العلاقات الدولية.
وربما كان من اهدافها ايضا تدميرمنظومات ما تبقى من الدولة القومية ،واعادة صياغة معادلات جديدة للاقتصاد الحر،وتوفير مصادر جديدة للطاقة والمواد الاولية وفتح منافذ جديدة للاسواق العالمية فضلا عن اعادة انتاج مفاهيم الهيمنة السياسية العالمية وفق انتاج معادلات جديدة للقوة والدولة والنظام الاقتصادي !!
يقابل هذه التحولات نشوء دروس وفلسفات اتجاهات ثقافية استلهمت، اشكالات التحولات الخطيرة في العقل الغربي وصدماته المعرفية بدءا من اثار ماتبقى من صدمة نيشه وانعكاسها على مفهوم المواطن/ البطل ، مفهوم الدولة القومية القوية ذات المزاج الاستعلائي ، وصولا الى الصدمات الحداثية متمردة والوجودية في منتصف القرن والصدمات البنيوية وما بعدها من اتجاهات تبنت انتاج خطاب ما بعد المركز الاشكالي على ايدي فلاسفة الدرس الجامعي بارت وفوكو ودولوز وغيرهم وصولا الى التفكيكيين الذي طرحوا اجندة تفكيك المركز المهيمن باتجاه الذهاب الى اقصى الحرية على ايدي دريدا وهابرماز وغادامير وغيرهم...
مثلما استلهمت مفهوم الحرية كخطاب واليات في المعطى السياسي واجترحت له منظومة من الاجراءات التي ارتبطت فيما بعد نشوء ظاهرة الاحزاب الديمقراطية بمواجهة احزاب اليسارالتقليدي ذي النزعات الماركسية التقليدية وطروحاتها حول مفاهيم المركزية والاقتصاد الاشتراكي وديكتاتورية البروليتاريا وغيرها من توليدات الثقافات الشمولية..
ويعترف أصحاب النظرية الليبرالية الجديدة بالقول، إن هذه النتائج السلبية ستحصل فعلاً ولكنها ستحصل في الأجل القصير فقط، وان النتائج الإيجابية سوف يحصل عليها المجتمع في الأجل الطويل، إلا أن ذلك يظل في عالم الاحتمالات أما في الواقع، فإن النتائج السلبية م إفقار وبطالة سوف تتراكم على المدى الطويل، وسوف تحدث تشوهات تعرقل مسيرة التنمية، خاصة من خلال تراجع خدمات التعليم والصحة. كما أن هذه النتائج سيكون لها آثار اجتماعية ونفسية خطيرة سوف تؤثر على التمسك الاجتماعي والأسري من جراء تزايد التفاوتات في توزيع الدخل والثروة وانقسام المجتمع إلى أقلية غنية وأكثرية غنية مع انحسار محسوس للطبقة المتوسطة.‏
لكن الليبرالية الاقتصادية الجديدة قد فشلت في إزالة الاختلال الداخلي (عجز الموازنة العامة والتباين بين الادخار والاستثمار) وكذلك الاختلال الخارجي (عجز موازين المدفوعات) في أغلب الدول التي اضطرت إلى الأخذ بها. لا بل انخفضت معدلات النموالاقتصادي ومعدلات نمو الإنتاجية وزاد معدل إفلاس المؤسسات وارتفعت معدلات البطالة.‏
أما على الصعيد العالمي فقد أدت السياسات الليبرالية المتطرفة إلى استفحال أزمة الديون الخارجية، وفرض نظام أسعار الصرف واضطراب أسواق النقد الدولية، وبروز نزعة الحماية والكتل الاقتصادية الإقليمية شبه المنغلقة واندلاع (الحروب) النقدية والتجارية الضاربة.
وكانت بلدان العالم الثالث، كما هي دائماً، الضحية الأولى لسياسات الليبرالية الاقتصادية، فقد قادت هذه السياسات إلى تردي أوضاع هذه البلدان بعد وقوعها في فخ القروض الخارجية، وبعد أن حاصرها الدائنون وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليجبروها على التكيف مع الأوضاع المضطربة للاقتصاد العالمي. من أجل ضمان استرداد الديون، وإعادة تشكيل التوجهات الاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان على نحو يكفل للدول الصناعية المتقدمة الدائنة، إعادة أساليب السيطرة المباشرة على اقتصادات بلدان العالم الثالث، وهي الأساليب الاستعمارية القديمة.‏
وهي في سبيلها إلى ذلك، فإنها تعيد فشل التنمية وتراكم الديون على بلدان العالم الثالث الى أربعة أسباب:
1. الضعف المزمن في البنية الاقتصادية.
2. الفساد السياسي الذي تمارسه النخب الحاكمة.
3. هروب رأس المال المحلي إلى الخارج.
4. الإنفاق الباهض على مشتريات الأسلحة وتأسيس جيوش لا لزوم لها.
هذا بالاضافة الى ان الليبرالية تؤكد باستمرار على المبادئ الحضارية والقيم الإنسانية كتحقيق الحرية الفردية.. وإقامة العدالة الاجتماعية.. وتطبيق الديمقراطية السياسية.. وإشاعة المساواة البشرية .. وتقرير الحقوق الإنسانية.. إلى غير ذلك من المبادئ والمعايير والقيم ، التي تمهد للإصلاح الشامل، وتعزز مسيرة الأمة بوسائل الفكر والإبداع كي تلحق بركب الحضارة الإنسانية الذي تجاوزها منذ قرون، لذا هم يحاربون (الوصاية الفكرية) بكل أشكالها، ويدينون سياسة (تكميم الأفواه) التي تعارض الحق الإنساني في التعبير، أو جريرة (الإقصاء) بكل صوره، لأنه نقيض احترام الآخر، كما يرفضون التدخل في شؤون الناس، أو عقلية رفض المخالف والأخذ من ثقافته، أو التحجر عند الماضي وعدم التعاطي مع الحضارة المعاصرة..
وينادي بالمنطق العقلاني في تناول الأمور ويشدد على الواقعية في تصور الأشياء والحكم عليها ويتهم الاسلام بأنه متطرف ومشروع جاهزللإرهاب،دون تمييز بين الاسلام العقلاني المعتدل والاسلام المتطرف..
فالخطاب الليبرالي اليوم أثبت تطبيقياً أنه يعيش أزمة حقيقية، وهذا يحدو بالرأي الآخر الى أن يتساءل اشكاليا عن مدى جدوى التلاقي معه على أرضية مشتركة، خاصة وأن عدد المنصفين منهم يكاد لا يتعدى أصابع اليد ما لم تكن هناك مكاشفة فكرية حقيقية معهم، تدفعهم نحو تبني مواقف عقلانية وقراءة الأحداث قراءة واعية تسهم في تخفيف حدة الغلو في خطابهم على كل الصعد والمجالات الحياتية..
فالليبرالية، خاصة تجلياتها في مرحلة ما بعد الحداثة، تشدد على حرية الأفراد وعلى المساواة فيما بينهم، وهي تجتهد في إزاحة وتفكيك كافة القيود المجتمعية والقانونية والمؤسسية، التي تحد من حرية الأفراد وتقيّد إراداتهم وتعطّل قدراتهم. وإذ تلطّف الليبرالية من مفاعيل الفردية الجامحة، التي تنتزع الفرد من الجماعة وتبعده عن أهله وأصدقائه، فإنها تفعل ذلك عبر تكوين التجمعات الطوعية. فهل تكون مساندة الليبراليين لمثل هذه التجمعات وحرصهم على حريتها هي التعبير عن التزامهم بالتنوع الثقافي ؟
قد يكون الذين يرون أنّ الليبرالية هي النظام السياسي الأفضل لتطبيق التنوّع الثقافي على حق، ولكن ليس هناك من مسوّغ للاعتقاد بأنّ النظام الليبرالي وحده يوفر هذه الميزة. إنّ الليبرالية قد تأتي ولكن من دون أن يأتي معها التنوّع الثقافي، إنها عقيدة إنسانية كبرى، ولكنها لا تقدم حلا لكافة المشاكل التي تعاني منها المجتمعات.
من اللوازم التي باتت تشكل ملامح الخطاب الليبرالي في مشروع الإصلاح الاقتصادي هي أن الحرية الاقتصادية شرط لازم للديمقراطية السياسية..وقد يتفلسف البعض ويختلف حول مديات مفهوم الحرية، إلا أنها تفترض وتشترط قبل كل شيء ضمان الحقوق الطبيعية للإنسان، التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، مثل الحق في الغذاء الكافي والحق في الحصول على مأوى والتمتع بالخدمات الصحية والحق في الحصول على عمل، والحق في التعلم والمعرفة والحق في حماية البيئة الطبيعية، والحق في التخلص من الفقر والفاقة على اعتبار أن الفقر لا ينسجم مع حق الإنسان في الحصول على حياة كريمة..
ومن الواضح أن هذه الحقوق الطبيعية، تفرض أداءً ملزماً على الحكومات، حتى يتسنى لمواطنيها التمتع بتلك الحقوق، بمعنى أن الحكومة ستكون مسؤولة عن قطاعات اقتصادية وخدمية كثيرة، حتى تتمكن من تأمين الحقوق لمواطنيها، كمرحلة أساسية باتجاه نشر (الحرية).. فمن المستحيل أن تمنح الحرية لأي شعب جائع!..
بيد أن هذا الأمر لا ينسجم مع المشروع الاقتصادي الليبرالي، الذي يحمل مفهوم إقصاء الدولة عن الحقل الاقتصادي وتحرير الاقتصاد من الضوابط، مما يفتح الطريق أمام رؤوس الأموال سواء المحلية منها أو الخارجية لغرض فرض هيمنتها على النشاط الاقتصادي المحلي، فمن أين للحكومة – أية حكومة – وهي تتبنى المشروع الاقتصادي الليبرالي كل تلك المبالغ الهائلة التي تستطيع من خلالها الإيفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، إذا علمنا أن هذا المشروع الليبرالي المعولم، يسهم حتى في التوجه نحو تقليص إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم الكمركية.
إن الحرية الاقتصادية المفترضة لإقامة اقتصاد يحكمه سوق منفلتة لا تنسجم بالضرورة مع الحرية المتوخاة في الديمقراطية السياسية، لأنها ستحيلها إلى ديمقراطية يحركها راس المال، وما يقال عن أن الحرية الاقتصادية شرط لازم للديمقراطية السياسية، تدحضه الحقائق التاريخية، فالتطورالرأسمالي تسارع في بعض دول الغرب في ظل أنظمة معينة، كما إن النمو الاقتصادي السريع في إطار الرأسمالية اقترن بتدخل فعال للدولة..
نعم فالبديل لرفض الليبرالية ونكوصاتها التطبيقية هو ايجاد آليات سياسية عربية واسلامية من أجل ضمان الحقوق الطبيعية للإنسان التي تنصب في مجملها باتجاه توفير حياة كريمة له، فهل ممارسة الإنسان حقه الطبيعي في الانتخابات تعني حصوله على كامل حريته؟.. وأين ستكون حرية الرأي والتعبير حيث يعيش عدد كبير من السكان في فقر مدقع حيال ديمقراطية للرساميل تتحكم في خيارات الناخبين...
إن ابتلاء معظم الشعوب التي كانت تصنف كشعوب للعالم الثالث بأنظمة شمولية هيمنت على القطاعات الاقتصادية بإدارات بيروقراطية طفيلية لسنوات طوال، التي أضرت كثيراً بالتنمية الاقتصادية، ربما كانت وستكون مدعاة لتمرير الخطاب الليبرالي الداعي إلى رفض اقتصاد الدولة القائم على التخطيط المركزي وإبداله باقتصاد السوق القائم على قناعات مسبقة ذات طابع آيديولوجي في اعتماد السوق محوراً للنشاط الاقتصادي وآلية لتوجيه الموارد..

الخصوصية الانسانية بين التفوق الحضاري والتمدن التكنولوجي

لابد من القول اولاً أن نؤكد أنّ عصر الحداثة هو في تطور مستمر، بهدف التعاطي المجدي مع التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية، عبر عقلانيته النقدية. ولكنّ مشروع الحداثة، الذي بدأ منذ عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، قد أوصلنا إلى مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية هي مرحلة ما بعد الحداثة. فقد نعى الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار عصر الحداثة، حيث رأى أنّ أهم معالم المرحلة الراهنة للمعرفة الإنسانية، هو سقوط النظريات الكبرى وعجزها عن قراءة العالم. وفي المقابل، فإنّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وريث مدرسة فرانكفورت النقدية، نشر مقالة هامة تحت عنوان " مشروع الحداثة لم يكتمل بعد "، وهكذا، تظل الحدود ما بين الحداثة وما بعد الحداثة متداخلة متشابكة، وهذا ما دعا بعض المفكرين إلى القول: إنّ ما بعد الحداثة ليست نهاية الحداثة، بل كامنة في حالتها الوليدة، وهي حالة مستمرة.
لكن اثارة هذا الموضوع ليس هو تزكية للثقافات الغربية او محاولة فرض الامر الواقع كما يبدو ،قدر ما يكون تعظيما للجهود الثقافية التي تؤمن بجدل الافكار والثقافات وحوارها في اطار المصالح المشتركة ،،فنحن نعيش في عالم بات خاضعا لمنظومات اتصالية سريعة ومعقدة ،وان انماط العلاقات الدولية وصلت الى درجة من التعقيد والتشابك للحد الذي تحوّل بعضها الى اشكال للاحتلالات العسكرية والاقتصادية ومحاولات فرض نظم ومفاهيم ومصالح في سياق فرض سياسات جديدة للاصلاح والديمقراطية تحت عناوين السيطرة على ثقافات العنف وعدم تحويل الثروات الهائلة الى مصادر لتخريب الحضارة الغربية..
يتميز الخطاب الثقافي في الواقع ، في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحوّلات في هذا الزمن المتغيّر، بأنه خطاب إشكالي: فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والإيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. ومن جهة ثانية، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقدم. ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد.
ولعل أحد أهم ملامح أزمة الخطاب الثقافي المعاصر تكمن في محاولة التعرف على عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة/ثقافة ما بعد الحداثة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا: الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية، وتعدد الثقافات، والعنصرية، والأقليات، والهجرة. وإزاء كل ذلك، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص هذه التحوّلات العميقة بداية.
ولعل منبع تجدد الإشكال الثقافي اليوم راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين: أولاهما، الالتزام الجماعي بمقتضيات الكونية الناتجة عن مسار تَوَحُّد البشرية واقتران مصائر أبنائها، من خلال الثورة الاتصالية والاندراج في الاقتصاد العالمي. وثانيتهما، الإقرار النظري والمعياري بحق الثقافات في الاختلاف والتمايز وتماثلها من حيث القيمة والمشروعية. والواقع أنّ مكمن الإشكال عائد إلى صعوبة صياغة تأليفية لهاتين الحقيقتين.
ومما يزيد الأمر تعقيدا أنّ الثقافة الكونية، التي وجدت في ثورة الاتصالات مرتكزا وفرصة للانتشار الهائل، تتوقف عند بعض الرموز والإشارات التي يمكن فهمها والتعرف عليها في كل مكان، مهما تعددت الثقافات المحلية وتنوعت.
وبعيدا عن المبالغات والتوصيفات والتهويمات الإيديولوجية، فإنّ مظاهر العولمة كلها تشير إلى أنّ الإنسانية تتجه نحو ثقافة عالمية ومشتركة، فلم تعد منظمة اليونسكو تتردد في الحديث عن أخلاقيات عالمية جديدة. ففي تقريرها عـن " التنوّع البشري الخلاق " دعوة واضحة إلى عولمة تتسم بوحدة وتنوّع الثقافة الإنسانية معا. وقد أصبح الشعور بوحدة هذا الكوكب حقيقة وليس مجرد أمنيات، سواء أكان ذلك من خلال سرعة التعرف عما يجري في العالم، أو الإحساس بمشكلات قد تتجاوز حدود الدول مثل: الإرهاب والمخدرات والأوبئة والجريمة المنظمة وغيرها.
ثم أنّ معظم الشواهد تشير إلى أنّ أثر العولمة يكرس من الخصوصيات الثقافية بالمقدار نفسه، إن لم يكن أكثر، من نشره لقيم عابرة لتلك الخصوصيات. فما توفره العولمة من آليات تواصل وتكنولوجيا هي برسم الاستخدام من قبل أية ثقافة على الأرض، وهو ببساطة أمر غير مسبوق تاريخيا. وفي الحقيقة أنّ المستفيد الأكبر من التعولم الحالي هو الثقافات الأقل حضورا من الثقافة الغربية، حيث وفرت لها وسائل العولمة الاتصالية قدرة على التواصل والإنتاج ما كان لها أن تتوفر عبر الوسائل التقليدية.
ومن جهة أخرى، ليس غريبا أن يربط كثيرون بين فكرة التنوّع الثقافي والنظم والمعتقدات الليبرالية في الغرب، فالفكرة بمضمونها المعاصر نشأت وتطورت في الدول الغربية، واقترنت بمسألة حماية الأقليات وضمان حريات الآخر. ولكن لا يمكن التسليم بصحة اعتبار الليبرالية الحاضن الفكري والسياسي للتنوع الثقافي على نحو مطلق، بدليل أنها لم تحل دون معاداة أغلبية الأوروبيين والأمريكيين والكنديين والأستراليين لقيم وأنماط سلوك وثقافات مواطنيهم ذوي الأصول غير الغربية، وخاصة العرب والمسلمين منهم.
وهكذا، يشهد العالم مرحلة إعادة نظر جذرية في قضية الثقافة، بل إعادة اعتبار لها من زاوية استراتيجيات المستقبل، خاصة وأنّ التطورات الجارية تبشّر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي.
ولاشك ان الدخول السياسي الثقافي الاقتصادي للمشروع الغربي بنسخته الاميركية الى العالم الشرقي لفرض اشكال الثقافات الليبرالية في ادراة الدولة والاقتصاد والتعليم ،قد اعتمد على توظيفات ثقافية تاريخية ومعاصرة تتجوهر في اساسها على اعادة انتاج مركزة القوة الكونية بدءا من ثقافات هيغل في مفهوم الدولة القوية الى طروحات فوكوياما وهنتنغتون وغيرهما من اساطين الثقافة المسيحانية الجديدة.
لا نريد ان نغمط حق الحضارة المادية وما حققته من انجازات لسعادة الانسانية، ولا نريد ان نقلل من شان حتمية متابعة العلوم والفنون والآداب.. الا اننا هنا ـ في العالم الآخر ـ امام منهجين في التعامل معها سواء كان استهلاكا واستفادة او كان من جهة السير على خطواتها العلمية في البحث والاكتشاف.
الاول: هو منهج القطعية المعرفية عن هذه الحضارة، وسد الآذان عن فكرها وصناعتها، وعزل المجتمع بشرائحه المختلفة عما يسمى بثقافة المشاهدة التي تحتل فيها الدول الغربية حصة الاسد من التبليغ والاعلام لنفسها، وهذا ـ عند اصحاب هذا المنهج ـ كفيل بالتأمين على القيم والمبادئ وصيانة الهوية والانتماء، ومقاومة التمييع في بوتقة ( الأمركة ).
الثاني : هو منهج فسح المجال امام الشعوب لرؤية هذه الحضارة الممتدة على ارجاء العالم فكرا وثقافة وصناعة، وهذا ـ عندهم ايضا ـ كفيل بتهيئة اجواء التفاعل والتاثر الايجابي الذي يصنع انسانا متحضرا يفكر ويبدع بخصوصيات عصره .
وبعد الغاء احتمالية المنهج الاول للناتج السلبي الخطير الذي يشل القوى الفاعلة للانسان، ويعزله عن واقعه الراهن، وهذه مخالفة صريحة لمبدأ قرآني يقرر ضرورة السياحة في الارض والاستفادة من تجارب الاخرين..
بعد هذا يمكننا ان ننظر الى الحلقة المفقودة، في المنهج الآخر وغياب عملية التربية النقدية لدى المواكب لهذه الحضارة ومنتجاتها المتعددة، فكل من نمى عنده الحس النقدي لأسس هذه الحضارة ومكوناتها الفكرية بوعي واتقان ومعرفة وعمق على ضوء البنية المعرفية الاسلامية التي عقدنا الحديث من اجلها، يتمكن من الصمود امام مغرياتها المادية، وينجح في التعامل مع كشوفاتها، ويلتمس المنهج الصحيح والصحي للاستفادة منها ومن مناهجها العلمية لأجل اصلاح واقعه وبلورة رؤية مبدئية للواقع المعاصر وانتشال وطنه الاسلامي الكبير من بؤرة التخلف واشكالية التتبيع.
من هنا تاتي قناعتنا الدائمة بان بناء عالم انساني حضاري على اسس راسخة ومستقرة من‏العدالة، والسلام، والتوازن، والتسامح يفرض العمل على موازنة قيم الحرية الاصيلة والاولى‏وتثبيتها. اي بالسعي الحتمي نحو تعزيز موارد الفرد (والجماعة والامة) وقدراته، وطاقاته،ومواهبه، واستثماره بشكل فعال في حركة الواقع اليومي، وبذلك لا يمكن للحرية بوصفهامعادلة للحوار اذا تركت باطلاق (عشوائي) الا ان تقود الى التفاوت المتزايد والاتجاهي بين‏البشر. وما لم تجد الحرية حدودا لها في قيم اخرى، مثل العدالة، والتضامن والاخوة‏والانسانية والبيئة النظيفة فلا بد من ان تقود على اي نطاق طبقت، والى اي نظام انتمت الى‏تفاوت بين البشر، افرادا وجماعات، فتقود من ثم الى طرق مسدودة.
والحرية التي تعني قدرة الانسان على الاختيار يجب ان تكون مسؤولة، وليست حرية‏منفلتة او مطلقة. فالانسان مسؤول عن اعماله واختياراته امام اللّه تعالى، وامام المجتمع كله‏في البعدين الايجابي والسلبي.
فهناك ضرورة قائمة الان ذات ابعاد معرفية تاريخية وجغرافية واقتصادية تؤكدمن جديد اهمية اندماج اشكالية «حوار الحضارات‏» في حوار اشمل واوسع من نظام‏اقتصادي وسياسي علمي جديد يقوم على الاعتماد المتبادل، والمنفعة المتبادلة والمتعددة‏بالفعل لا بالاسم، وعلى التعددية والعدالة والتنمية والتكافؤ والندية بما يعزز رؤية سكان‏العالم لموقع كوكبهم في الكون ومستقبلة الواحد. وهذا ما يحتم على العرب والمسلمين‏السعي المتواصل والدؤوب في اطار حوار الحضارات لمعرفة ايجابيات الحضارة‏الغربية، ومنها قضايا التعددية السياسية، وحقوق الانسان، وتعميق الحس والنظرة النقدية‏للواقع بما يعزز هويتنا الحضارية في اطار من التفاعل الخصب والمنتج مع الحضارات‏الاخرى، والتعامل الجدي والمسؤول مع المتغيرات والمستجدات العالمية الراهنة، بهدف‏الاستجابة والتكامل بها ومعها.
وحينما يؤكد الباحث المنصف على ضرورة اخذ ايجابيات الحضارة الغربية على مستوى الاستفادة من‏القيم والمبادى السياسية والثقافية السائدة هناك، فان ذلك لا يعني خلو حضارته من هذه القيم، بقدر ما يعني ان نستفيد حضاريا من آليات الحكم في القضايا المعاصرة كالحرية وتداول السلطة، ومجال حقوق الانسان مثلا التي استطاع الغرب ان يصل اليها،ويؤسس لها معرفيا وثقافيا، في داخل منظومته الحضارية قبل الحضارات الاخرى..
واخيراً فان الثقافة الانسانية تمنح الانسان الوسائل المناسبة للتمكن من‏الحياة على الارض بفاعلية، والتصرف عليها بوصفه الامين والمؤتمن على نفسه، وعلى‏سواه من عناصر الطبيعة والحياة.
اما بالنسبة للعلم الراهن وتقنياته الحديثة فهما عاجزان عن‏القيام بذلك، اضافة الى عجزهما عن البحث في مصائر البشر، وآمالهم وطموحاتهم، او حتى‏عن رسم مجرد صورة صغيرة عن اهداف البشر وطموحات الانسان.

المعرفة الدينية والمفهوم السياسي

بما ان الدولة العثمانية اعتبرت نفسها منبعا للقيم السياسية وإطارا للسيادة جامعا لأمة الإسلام والمسلمين،فقد احدث انهيارها فجوة حقيقية في الواقع العملي للمسلمين،الأمر الذي منح كتاب علي عبد الرزاق الازهري (الإسلام وأصول الحكم) وغيره من الكتب التي تبحث الإشكالية السياسية الكبرى اثارة وجدلا وردود أفعال كثيرة،مست المؤسسة التقليدية في الإصلاح بكل مواريثها ومسلماتها فضلا عن اثارة النخب الحديثة.
وما ذاك إلا لأنها أعلنت عن تفجير المعركة السياسية داخل الإجماع التقليدي الذي حاولت الحركة الإصلاحية السلفية ان تجعله محورا للتجديد وأداة للنهضة في خضم اهتزاز المقومات الشرعية وكثرة التمزقات وبداية التوسع الغربي.
اما بالنسبة للعالم الغربي فالتصادم بدأ بين الدين والعلم كما هو معروف,أدى لتصادم بين الدين وأسس تشكيل الدولة الحديثة.وليس هوموضوعنا هنا..المهمّ أنه في العالم الشرقي لازال كل من الدولة بما تمتلك من معايير واقيسة والدين بمايمتلك من رؤى وتصورات للسياسة والحياة والمجتمع يعيشان منفصلين..
وحينما بلغت هذه الإشكالية ذروتها باتساع الهوة بين الدولة وأجهزتها ورجالاتها وبين الجماهير ومشاكلها ونخبها المثقفة وهمومها الحركية،ظهرت بوادر الصحوة والمد الإسلامي الذي ينتقد الدولة وممارستها ويلغي الفاصلة الوهمية المتولدة من الإشكالية المذكورة،على خلاف رهان الدراسات الوضعية التي تؤمن بان مستقبل الدين يتجه نحو خيار العلمنة او العولمة،وانه ستتراجع المكانة الدينية على ضوء الإشكالية السابقة وتتخلى عن مقولة السياسة والدولة والحياة العامة لصالح قيم التحديث وإفرازات النظام العالمي الجديد؟
وخلاصة الأمر انه اذا كانت المجتمعات الغربية المسيحية التي أفرزت الحل العلماني قد عانت من سيطرة رجال الدين والكنيسة على الدولة وتغلب القيم الكهنوتية المعادية للعقل على الوعي والثقافة،فان المجتمعات العربية الإسلامية قد رزحت لفترة طويلة تحت نظام سيطرة رجال الدولة على السلطة المطلقة وغلبة الروح الذرائعية على الوعي والممارسة بما في ذلك الممارسة المدنية نفسها.
وهذا الغرض يستدعي الغاء كل المسافات المصطنعة بين المسلمين أنفسهم وإشاعة النزعة الى استثمار القيم الدينية في العمل السياسي الموحد،ونبذ التمزق والفرقة التي تهز الواقع الإسلامي والاعتراف بمرجعية إسلامية مؤسساتية نقية كأساس ومنبع لهذه القيم وصولا الى الحل الإسلامي الصحيح الذي يعيد بناء المجتمع والدولة وينظم الحياة والقانون بشكل عادل.
احتل مفهوم السياسة في بداية القرن العشرين – وهي فترة ظهور وتبلور التيارات الاسلامية الحديثة – حيزا كبيرا في البنية التاسيسة لخطابات رجال الاصلاح ورواد النهضة، لاخراج الامة من سباتها وتنبيهها نحو الخطر القادم اليها من الدول الغازية وهي مسلحة بالآلة الحربية المتطورة والماكنة الدعائية.
وقد اخذ هذا المفهوم ابعاده الحركية على الصعيد الاجتماعي والسياسي آنذاك، وراح المصلحون الاوائل ينادون باعادة تطبيق الشريعة في الحياة العامة كحل ناجع لاشكاليات ذلك العصر الذي كان يتعرض لهزة عنيفة في بناه الاجتماعية وانساقه الحياتية ،فاثيرت قضية التشكيك بان الدين غير قادر على مواكبة العصور وتحدياته ولا بد من فصله عن السياسة.
فالسياسة –وفق النظرة الدينية الحديثة- من اصل الدين, لكن بهذا الاعتبار أي : اعتبار ان النهوض والتحرر هو جزء حيوي من حركة الدين واساسه الفكري , لا باعتبار ان الدين هو الموجه لحركة السياسة ونظام الحكم وان غيره لا حق له في ذلك , اذ تستبطن النظرة الاخيرة صورة مشوهة عن الدين باعتباره الغاء للاخر واستبدادا مقيتا مناقضاً للدين .
هذا ،فيما يغض النظر هذا الخطاب الجبري الأخير, عن المشروع الحضاري الكبير الذي اطلقه الدعاة من علماء هذه الامة ومصلحيها لدحض وتفنيد ادعاء الفصل بين الدين والسياسة، حينما اطلقوا مشروعا يتجاوز موضوع اقامة الحكومة الاسلامية والمطالبة بالامساك بزمام الامور السياسية ؛ وهو مشروع النهضة والاستقلال والوعي والمواجهة وبناء الذات وتأسيس ملامح الفكر المعاصر وتفعيل الحس النقدي في محاكمة الموروثات الخاطئة واعادة قراءة النص وفق معطيات العلوم الإنسانية والثقافات البشرية ، بل واعادة ربط العبادي بالسياسي:
يقول المفكر الاسلامي الشهيد محمد باقر الصدر ( ان العلاقة الاجتماعية تتواجد غالبا بصورة او باخرى الى جانب العلاقات العبادية بين الإنسان العابد وربه في ممارسة عبادية ذات دور اجتماعي في حياة الإنسان، ولا تعتبر ناجحة الا حين تكون فاعلة في توجيه ما يواكبها من علاقات اجتماعية توجيها صالحا).
فالدولة هي عبارة عن المؤسسة التي تبحث في التنظيمات البشرية التي تكوّن الوحدات السياسية وفي تنظيم حكوماتها وفعالياتها، هذه الحكومات التي ترتبط بتشريع القوانين وتنفيذها، وفي علاقتها بالدول الأخرى، كما تبحث في العلاقات التي بين الافراد والتي تخضع لرقابة الدولة، وفي علاقات الافراد او المجموعات بالدولة نفسها، وفي علاقات الدول بعضها ببعض، وتبحث في تطوير السلطة السياسية وحرية الفرد .و الموضوعات التي تهم هذه العلوم بصورة رئيسية هي الدولة والحكومة والقانون، كما ينص المتخصصون في هذا المجال.
اما الدين فهو مجموعة من الاحكام والعقائد والمقررات التي جاء بها الوحي الالهي لغرض تنظيم حياة الانسان في كل ما يحتاجه من امور الدنيا والاخرة. (وفيه طرفان: طرف منه يتصل بعقيدة الانسان ويقينه، وطرف اخر منه يتصل بسلوكه وحياته الاجتماعية).
وحينما جاء الدين الاسلامي كدين خاتم للبشرية جمعاء جاء بمجموعة من القيم تنبسط على نواحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وفي القضية السياسية علّم البشرية جملة من المفاهيم كالعدل والحرية والحقوق والواجبات والمواطنة والانتماء والمشاركة والاختيار والمشورة وما شابه ذلك. ولم يات بصيغة محددة لنظام الحكم، ابعادا للدين عن الادلجة والتسخير والاستبداد والاستئثار.. هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى فالدولة -كمفهوم، لا ينطوي تحتها نوع معين من الأنظمة الناشئة عن ايديولوجيا خاصة..وبهذه النظرة التصالحية يصاغ تعريف جديد معاصر للدين يتآخى مع الدولة ويكون عونا وإضاءة لمشروعها السياسي،فالدين هو القوة المدخرة للدولة اذا أحسنت استخدامها وهيأت لها الظروف والحريات التي تجعلها حية متطورة وفاعلة في الصنع والنهوض وبناء المجتمع الخير والعقل النير ، بدلا من معاداتها وعزلها.
( وقد اظهرت التجربة ان اقوى الطرائق اثرا في حل هذه المشكلة هو ان نسمح لمؤيدي كل اقتراح ومعارضيه بالادلاء بارائهم بحرية تامة،لان الاراء والمقترحات الصائبة الخيرة ستنال في المدى البعيد القبول العام و تشجب الاقتراحات الرذيلة) كما يقول اوستن رني في (سياسة الحكم).

وحينئذ سوف تصرف الجهود الدينية بكل ما تملك من ركائز مؤسساتية وفكرية ومالية لخدمة مقاصد الدولة العادلة المتحضرة ،بل سوف تتحول هذه المقاصد الخيرة الى قيم دينية لان الهدف الاعلى من التشريع الاسلامي هو ان تزدهر وتسود القيم الحضارية الخالدة في المجتمع.
فالعدالة الحقيقية والحرية الصحيحة والمساواة الواقعية والتوازن والتكافل الاجتماعي والوحدة والاخاء ومقاومة الظلم والاستعباد ونحوها، قيم حضارية تعمل مجتمعة على ادامة توجه الانسان في حركته .
فالرؤية الدينية – وفق العقلانية الحديثة- تؤمن بان استيعاب الشريعة الاسلامية في مضامينها واحكامها لكافة ابعاد الانسان في حياته الفردية والاجتماعية والسياسية ، تعقلن ايضا مفهوم المشاركة السياسية وتنحوبها الى حل اشكالية التقاطع بين الدين والدولة من خلال اجراء المصالحة التي تؤمّن للطرفين حقوقهما.
فالدولة ايا كان شكل نظامها وطبيعتها الادارية, وسواء قلنا ان الاسلام جاء بنظام سياسي محدد الابعاد والمعالم ام لا، وايضا سواء قلنا ان الاسلام يتلاءم مع الديمقراطية او العلمانية او الاشتراكية ام لا، وسواء قلنا ان الاسلام يهتم بصياغة انظمة الحكم ويسعى الى ايجاد حكومة اسلامية ام لا.. فالدولة لا بد ان تكون عادلة.
وهذه الرؤية العقلانية لعالم السياسة تظل تجاهد حتى ارساء دعائم دولة عادلة مستنفرة كل رؤاها وطاقاتها، وحين تحقق غايتها وتتهيكل اركان العدل في الحكومة يبدأ مشوارها الحقيقي ( فان اصحاب الرؤية الثانية ينطلقون في تصورهم للنظام الاسلامي في عالم السياسة وحقوق الانسان من موقع عقلاني ورؤية علمية تنسجم مع معطيات الواقع المعاصر في تحدياته الكثيرة وتعقيداته المتشابكة وادخال عنصر الفعل او الوجدان كمصدر مهمّ من مصادر التشريع ، لا بما هو موصل فقط لمراد الشارع المقدس من ظواهر النصوص وكاشف عن الحكم الشرعي المقرر في التراث الديني.
ولهذا كان من الضروري على اساس هذه الرؤية الاهتمام الشديد بمعطيات العلم والمعارف البشرية المعاصرة لفهم الحكم الشرعي بصورة افضل واقرب الى الواقع والعمل على صياغة مفاهيم جديدة عن الحق والحرية والعدالة تتناغم مع ما تعيشه البشرية من تغيرات متسارعة في منظومة القيم الاخلاقية والحقوقية من جهة، وتنسجم مع تعاليم الاسلام ومبادئ الشريعة السماوية من جهة اخرى).
وهذا ما تستدعيه طبيعة المرحلة الراهنة بكل تداعياتها كما انه هو الذي يتطلبه طبيعة استشراف تعاط صحي مع مستقبل (مرعب) بشّر بصداماته صاموئيل هانتغتون قبل اوانه و اوحت به العولمة وفتوحاتها المدعاة واختزله اصحاب مشروع ( القرية الصغيرة )، ففي هذه الاجواء توجد سلسلة من الاسئلة - كما يقول – محمد مجتهد سبستري- والحفاظ على سفينة المتدينين في هذا البحر المتلاطم الامواج يقتضي تشخيص العلاقة بين المعارف الدينية والثقافية البشرية بدقة، ويفترض الحديث عن الدين والتدين بطريقة ذات معنى مفهوم يتناسب مع واقع العصر ومفرداته المتطورة.
فـان الالتزام بحياة تقوم على اساس الدين والاستفادة من الوقت نفسه من فتوحات العلم الحديث وانجازات الحضارة الحديثة يعتبر في مجتمعاتنا من المشاكل الفكرية – والعلمية التي لم يسبق لها مثيل، ولا يمكن تلمس هذه المشاكل وايجاد الحل لها الا بتعيين وتشخيص طبيعة العلاقات والوشائج التي تربط ما بين الدين والعقل والعلم.
وهكذا نحلّ الاشكالية التقاطعية بين الدين والدولة التي يصورها الخصوم،ولا نحتاج بعد ذلك الى الحلين المطروحين سابقا اعني،الحل الذي تطرحه العقلية التقليدية الصارمة المطالبة بتطبيق حكومة السلف واسقاطها على التجربة المعاصرة للمجتمعات الاسلامية،والحل الذي تطرحه الصوفية الحديثة التي تعزل الدين في زاوية العبادات والاحساس القلبي بعالم الغيب...
كما اننا حينئذ سوف نركز جهودنا ونكرس طاقاتنا من اجل الخوض في تاسيس مجتمع و فكر اسلاميين معاصرين يستطيعان مواجهة الراهن المنفتح على كل شيء والملتهب بحرارة الاكتشافات والتحولات المختلفة.

بماذا نرفض العلمانية وغيرها؟

اذا كانت العلمانية ، عند اصحابها، وبمختلف تطبيقاتها ( تتفق على تعريف واحد لمفهوم الإنسان، بأنه الكونيّ الذي من حقه أنْ يعيشَ حريته وأن يتساوى مع الآخرين في مجتمع غير قابل للتجزئة، يحقق للفرد حرية اختيار قناعاته- روحية كانت أو مادية – بدون تمايز ).
واذا بشر اصحابها بأن الدولة العلمانية( هي بالضبط دولة الحياد الديني الذي يعني اختياراً متزامناً لحرية المعتقد وللمساواة في الحقوق، مع حرصها على( الكونيّ) وعلى القيم المشتركة بين الجميع )- كما يقول احد المتحمسين لها - .
فإن هذه هي مفاهيم وقيم انسانية اجتماعية وسياسية ، ينبغي صياغتها من قاموسنا المعرفي الخاص دون ان نتكلف استيرادها من الخارج، غاية الامر اننا بحاجة الى صياغة حديثة ودقيقة لها في الحياة الاجتماعية والسياسية بشكل علمي منظم مرتكز على القيم والتجربةً التأريخيةً بعد استخلاصها وتحليل عناصر الوعي منها..
فالافراد وفق هذه الرؤية احرار لا يجبرون على عقيدة محددة، وهم متساوون في الدولة من حيث الحقوق والواجبات، والانسان هو الهدف من قيام نظام الحكم وتشكيل القوانين والدساتير،والعقل والضمير لهما الاولوية في كل المعاملات والتداولات اليومية في الحياة..
ولهذا يسود اليوم اعتقاد لدى النخب الثقافية المستقلة في العراق أن البديل الموضوعي للعلمانية وغيرها بكل تداعياتها ووجوهها الايديولوجية هو مفهوم (العلمية) التي تتشكل من خلال الاستزادة من مختلف الحقول المعرفية التي تدعو للنهوض والتطور والتقدم ..ولا تضرّ الكثرة المطلّع عليها من الآراء والأفكار والتصورات مادامت تُقابل أو تتُلقى بحسّ نقدي كاشف واسلوب علمي منظم.
ينبغي أن لا تسلب منا الحقائق المروّعة لهذه الأفكار وما جرّته على البشرية من دمار واستعمار وحروب واستغلال... وأن لا تسلب منا العقل وتأسرنا العاطفة ونتعامل مع من حولنا بسلبية، فيما لو تمثّلت الحكمة في الحوار والاطلاع والانفتاح، مادام الحسّ النقدي فعّالاً عند صاحبه.
لانريد هنا ان نركز على الجانب المعنوي في هذا الطرح للبدائل .. لكن يجب في الجانب المادّي أن نتعلّم وندرس كل فروع المعرفة الحديثة، واستخداماتها التطبيقية العملية، ابتداءً من العلوم وانتهاءً إلى السلع التي تسهّل حياة المواطن في العصر الحديث. فهل قدر لنا دوماً أن نكون ((مشترين)) فقط!!. ألا يجب علينا أن نتقن الفنون والعلوم المتّصلة بجوانب الحضارة المادّية ـ وهو الجانب الطاغي ـ حتى نطوّعها لارادتنا ونشارك في التحكّم فيها؟.
فما الذي نحسنه نحن اليوم غير الالغاء والتهميش والتسقيط والعنف ؟ وكيف يحق لنا والحال هذي ان نتشرف بالانتماء للعروبة أو الاسلام الذي اطلق مقولتي النقد والاصلاح؟
يبقى أنّ النهضة ـ حيثما تختطّ ستراتيجيتها ـ بحاجة الى تطبيق ونهوض من قبلنا كشعب ودولة ومواجهة مشوبةً بآلية فردية تطبيقية تتعامل مع هذه السبل في المواجهة. والمنصف ـ هنا في هذا الإخفاق الراهن ـ ينبغي أن يتّهم الأفراد لا الرؤية ..
كما أنّ فقدان هذا التوازن يؤدي إلى الانحسار أوالتبعية أوالانبهار أوالتقليد أو تهميش الإنسان ..ولقد أخفقت الحداثة الاوربية ـ كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري ـ في تحقيق مشروعها كاملاً، مشروع جعل الإنسان هو القيمة العليا... وبذلك فقدت طابعها الإنساني فأفرزت ما يشبه التقيّض لما كانت تطمح إليه في البداية..
وفي العراق لا تكمن مشكلة التطبيق لنظام الحكم العادل او المجتمع الناهض في الدين ، ولا في تعدد الأديان والمذاهب والأثنيات فيه، لأن الخيارات الروحية والانتماءات المذهبية حق شخصي، كما الخيارات المادية والدنيوية، المشكلة في تجاوز هذا الحق الشخصي حدوده ومحيطه الخاص، وتطاوله على المحيط العام، برعاية المؤسسة الدينية في اتجاهها التفكيري الجامد او اتجاهها التكفيري المرعب ، وفي تطبيق الشريعة الإسلامية كقانون يطبق بشكل فردي وذوق خاص مبتسر وبالقوة في المجتمع ككل..
مع العلم أن الحياة الدينية والروحية لا تقتصر على الدين فقط، لأن الروح تعيش في الممارسات المتعددة الأشكال للحياة الاجتماعية وفي الثقافة الإنسانية وفي غنى هذه الثقافة. ففي الفن والعلم والفلسفة نجد بعض الاشكال من الحياة الروحية التي لا تتعارض مع الدين.
فالرؤية إذنْ ، كيفما كانت ، اذا أقيمت على اساس علمي عقلاني منظم ، فهي لا تحتكر الروحانية ولا تمنع وحدة الشعب في الاندماج والارتقاء إلى مجتمع سياسي تتساوى فيه الحقوق، لكن الذي يعيق هو الامتياز والتسلط والدكتاتورية والجهل والتخلف ، مهما كان مصدره، دينيا أو مذهبيا أو أيديولوجيا أو علمانيا، كما هو شأن أي سيطرة للمصالح الخاصة قد تقف مانعاً في وجه الوحدة والاستقلال والتقدم...
وحينما نصل نحن في العراق لتلمس البديل الموضوعي الاصيل اي مفهوم العلمية المرتكز على الاساس العقلاني،ونبدأ بتطبيقه الشامل في جميع نواحي حياتنا الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية والثقافية ..يحق لنا حينئذ ان نعارض النقد الموجه لنا ونرفض جميع الافكار والطروحات الدخيلة..

أزمة الإعلام العراقي..إنفتاح أم فوضى!

لكل رسالة إعلامية هدف خاص يراد تحقيقه من خلال منهج مرسوم اذ تلتقي أهداف هذه الرسالة في محصلة اجتماعية وطنية عامة ، وذلك بايجاد بيئة تلق تسعى لتحقيق الانسجام بين الأهداف والواقع، في سياق توجه فكري وطني معتدل يحقق الشخصية الاجتماعية الإنسانية المتكاملة عند متلقي الرسالة .
ويبقى مدى التأثير في تحقيق الهدف المنشود منوطا بمقدار استجابة المتلقي نفسه ، وبمقدار تأثير المرسل بالمتلقي حتى يجعله متكيفاً أكثر مع الاستقبال..فإن كان اعلاما وطنيا هادفا معتدلا في طرحه خلق لنا متلقيا فاعلا مؤثرا في محاربة كل الآفات التي تهدد أمن المجتمع وتعايشه السلمي بغض النظر عن الانتماءات والولاءات الفرعية الخاصة، وان كان اعلاما متطرفا خلق لنا فردا مغايراً..
من المؤكد أن العهد الإعلامي الجديد لا تمكن مقارنته بإعلام الحقبة البائدة . ففي تلك الحقبة لا يمكن القول إنه كان يشكل ظاهرة تستحق التأمل أو الدراسة، فقد كان سلطوياً بامتياز، أي انه كان مكرسا للسلطة الحاكمة بكل خطوطه، وفي السنوات الأخيرة أصبح مكرساً لشخص واحد فقط.. كان إعلاماً موجهاً، ابتداء من انتقاء الكلمات، والمواضيع، وانتهاء بالكتاب والصحافيين الذين يرشّحون للكتابة في المواضيع الحساسة بالخصوص.
كل ذلك لم يعد موجوداً في إعلام العراق اليوم، على العكس. إنه يشكو من كثافة التنوع والفوضى المهيمنة عليه، وتباين الأساليب والآراء الفكرية، ومهنية أو عدم مهنية الصحف والفضائيات والإذاعات. يوجد اليوم حوالي ثلاثين فضائية عراقية، وعشرات الصحف اليومية والإذاعات، وعشرات المجلات الثقافية والفكرية في بغداد وحدها، عدا الوسائل الإعلامية في المحافظات.
ما يلفت النظر اليوم في الإعلام العراقي، مقارنة مع الإعلام العربي عموماً، هي عدم وجود وزارة إعلام عراقية، ولارقابة حكومية وبذلك تخلصنا من عبء مؤسسة بيروقراطية، متوارثة، ذات ماض سلطوي دائماً.
لكن غياب وزارة إعلام ورقابة على المطبوعات، لا يعني بالمحصلة أن هذا الإعلام صار حراً مئة بالمئة، فثمة خطوط حمر غير مرئية، يستشعرها معظم الكتاب والصحافيين ورؤساء التحرير في تلك الصحف والإذاعات والفضائيات.
وهي من زاوية معينة تمتلك جانباً ايجابياً، ومن زاوية أخرى تمتلك جانباً سلبياً، على اعتبار ان غياب أي فحص لمستوى الخطاب يؤدي إلى الفجاجة والسطحية والإبتذال غالبا.
وتتوزع المنابر الإعلامية على نوعين: تلك التابعة لطائفة او قومية، وتلك التابعة لأحزاب سياسية، ولحد الآن لايوجد هناك قانون يحدد الشروط المتوفرة لفتح الوسيلة الإعلامية، مع أن الدستور حدد خطوطا عامة لتنظيم الإعلام.
لقد جاء العراق في طليعة الدول التي قدمت ضحايا في حقل الصحافة والإعلام، اذ قتل او اختطف اكثر من مئة صحافي عراقي، وأجنبي، خلال السنوات الثلاث السابقة، بعضهم قتل او اختطف بسبب كتاباته، والبعض بسبب الهوية المذهبية. وهذا أحد جوانب المعركة الدائرة على المستويات كافة في ساحة العراق، مع التنويه إلى أن الأداء العراقي، الحكومي والشعبي والمؤسساتي، ونتيجة لضعف المهنية، والتشرذم الموجود، ومحلية الأفكار والطروحات، لم يستطع ايصال رسالته إلى الجمهور العربي، ولا الوقوف بندية تجاه الإعلام التخريبي، والمتشفي بما يجري على الأرض.
والملاحظ أن الهبّة الإعلامية التي بزغت بعد سقوط النظام، مرت بتحولات عديدة، وهذا أمر بديهي ضمن بكورة الحرية الإعلامية التي يعيشها العراق. ففي البدء كان المهم هو تأسيس الوسيلة الإعلامية لكي تنطق بإسم هذا الحزب او التيار، وكان التأسيس عادة ما يترافق مع تدني المستوى، والخطاب المباشر الشعبوي والحزبي، وعدم تقدير وقع الخطاب على القوى السياسية الأخرى، أو على الجماهير..لكن المشاكل التي يسببها هكذا نمط من الإعلام سرعان ما بدأت تظهر إلى السطح، وجعلت القائمين على وسائل الإعلام تلك يستفيدون من الأخطاء وردات الفعل تلك، فيعدّلون او يلطّفون من المباشرة، ليصبح الخطاب اكثر دبلوماسية وأكثر دقة.
وقد لاتحقق هذه المقولة نجاحا في جميع الاحوال لأن الاشكالية المذكورة اسست لاعلام يجري وراء رغبات الجمهور وان كانت متدنية احيانا، اي ان الدور ينعكس تماما في هذه اللعبة، حيث لم يعد الاعلام معلما بل اصبح هو الطالب في مدرسة الشارع ونزواته ومزاجه.
وبتحليل هذه الحقيقة نكتشف ان السبب في هذا التحول هو انعدام الحالة الوسطى النموذجية المعتدلة في العلاقة بين الاعلام والحكومة، فإن هناك تطرفا في هذه العلاقة ؛ أما ان يقع الاعلام اسيرا للسلطة..او يخرج من تحت عباءتها بشكل انفصالي كامل كأية شركة اهلية، لتكون الحكومة خرساء بلا اعلام وتكون المؤسسة الاعلامية سائبة وتجارية ومتدنية الدور وبلا مرجعية سياسية.
اذا كان المعنيون في العراق من سياسيين واعلاميين حريصين على نجاح تجربتهم الحالية فالمفروض ان يفكروا بابتكار حالة جديدة من التعاطي بين السلطة والمؤسسات الاعلامية، بعيدا عن الاستحواذ الكامل او القطيعة الكاملة.
والقضية تبدأ من التمويل، اذ يمكن للحكومة ان تتحمل جزءا من تمويل وسائل الاعلام تمويلا غير مشروط، باعتبار ان هذه المؤسسات هي جزء من المجتمع المدني الذي تسعى الحكومة لتنميته وتطوير مؤسساته.
وتشكل هذه الحالة ثغرة في الامن الوطني خاصة عندما تجد جهات معادية الفرصة سانحة لشراء الصوت الاعلامي الوطني مستغلة ازمته المالية لكي يتحول الى مروج لسياساتها.
وبعد مشكلة التمويل تظهر مشكلة الحقوق الانسانية للاعلاميين ، فالجميع الان يعانون من فقدان الامن المهني او الامن المعيشي بسبب عملهم في مؤسسة تبدو وكأنها بائع متجول لايفكر الا بقوت يومه.
وكما هو معروف لايمكن لأية صنعة او مهنة ان تزدهر وتتطور مادام القائمون عليها يعيشون قلقا متواصلا يخص مستقبلهم المعيشي،فإن الضمانات المعيشية والمساعدة الحكومية في التمويل ستجعل وسائل الاعلام تشعر بالانتماء الى وطنها وتجربته وتبذل جهدها لخدمة هذه التجربة من موقع الهادي والموجه للرأي العام والمساهم في اعادة بناء المجتمع بعد هذه التجربة من التفكك الاجتماعي الخطير.
في هذه الايام الفاصلة الذي بدأ ينحسر فيها الارهاب وبداية عهد جديد من الاستقرار والاعمار ، سوف تظهر استحقاقات الاستقرار على جميع الاصعدة ومنها استحقاقات القطاع الاعلامي الذي بدأ يفكر بنهج اكثر عمقا واحترافا باحثا عن الهوية الاعلامية المميزة لعراق حر تعددي ، وهنا يأتي دور الحكومة لاسناد هذه المؤسسات واحتضانها لتؤدي دورها الحضاري بالشكل المطلوب.. لذلك فالبحث عن حلول جزئية لأزمة الإعلام المعتدل في العراق لن تكون مجدية، فإننا مطالبون جميعاً بالعمل كل على حسب إمكانياته واستطاعته ووفق المكان الذي يحتله من اجل حل شامل يعالج اشكالية التخلف في خطابنا الاعلامي فنيا ومضمونيا .
الحكومة العراقية مطالبة بدور جدي في المسألة لأنها طرف رئيسي فاعل في ايجاد الحل البديل الناجع ، وإن عدم مسارعتها للعب دور إيجابي سينعكس سلباً بالتأكيد على مصالحها فيما بعد، لأننا نعيش عصراً إلكترونياً يفرض انفتاحاً في كل يوم أكبر وأوسع من اليوم الذي يليه، ولن يكون في المستقبل للحكومات سلطة عليا على الرقابة الإعلامية، فالتطور في عالم الإعلام والاتصالات يتقدم بسرعة هائلة دون أن تكون للحكومات العربية القدرة على كبح جماحه.
إننا بحاجة إلى حلول شاملة نابعة من تعميق وعينا بالعملية الاعلامية حينها سنتجاوز شيئاً من أزمة التخلف التي تعصف بكل شيء وتنذر بتغيير بدأ على مختلف الصعد، وهذا التغيير قد يكون إيجابياً، ولكنه لن يخلو من الشوائب والسلبيات القاتلة إذا لم يتوفر الترشيح والنقد والترشيد المناسب .. نحن بحاجة الى إعلام حضاري ممنهج يرتكز على استراتيجيات ووسائل واضحة وذات أهداف نبيلة ورسالة سامية ، ومن اهم هذه الوسائل العصرية هو الاعلام الهادف الذي يوصل المجتمع الى الحالة الحضارية المنشودة.
والخلاصة التي يجب التنبه لها، هي أن الخطوط الواصلة بين الاعلام والحقائق ليست خطوطًا مستقيمة على طول الخط، وبأنه وقت الحروب والأزمات ومشاريع الاعمار يجب توحيد الصفوف وتأجيل الخلافات، وعلينا أن نتمهل في إطلاق الأحكام وألا يحملنا الانفعال والحشد الإعلامي وأجنداته على هضم حقوق الآخرين، وتناسي حقائق التاريخ، والحقائق على الأرض أيضًا.