اذا كانت العلمانية ، عند اصحابها، وبمختلف تطبيقاتها ( تتفق على تعريف واحد لمفهوم الإنسان، بأنه الكونيّ الذي من حقه أنْ يعيشَ حريته وأن يتساوى مع الآخرين في مجتمع غير قابل للتجزئة، يحقق للفرد حرية اختيار قناعاته- روحية كانت أو مادية – بدون تمايز ).
واذا بشر اصحابها بأن الدولة العلمانية( هي بالضبط دولة الحياد الديني الذي يعني اختياراً متزامناً لحرية المعتقد وللمساواة في الحقوق، مع حرصها على( الكونيّ) وعلى القيم المشتركة بين الجميع )- كما يقول احد المتحمسين لها - .
فإن هذه هي مفاهيم وقيم انسانية اجتماعية وسياسية ، ينبغي صياغتها من قاموسنا المعرفي الخاص دون ان نتكلف استيرادها من الخارج، غاية الامر اننا بحاجة الى صياغة حديثة ودقيقة لها في الحياة الاجتماعية والسياسية بشكل علمي منظم مرتكز على القيم والتجربةً التأريخيةً بعد استخلاصها وتحليل عناصر الوعي منها..
فالافراد وفق هذه الرؤية احرار لا يجبرون على عقيدة محددة، وهم متساوون في الدولة من حيث الحقوق والواجبات، والانسان هو الهدف من قيام نظام الحكم وتشكيل القوانين والدساتير،والعقل والضمير لهما الاولوية في كل المعاملات والتداولات اليومية في الحياة..
ولهذا يسود اليوم اعتقاد لدى النخب الثقافية المستقلة في العراق أن البديل الموضوعي للعلمانية وغيرها بكل تداعياتها ووجوهها الايديولوجية هو مفهوم (العلمية) التي تتشكل من خلال الاستزادة من مختلف الحقول المعرفية التي تدعو للنهوض والتطور والتقدم ..ولا تضرّ الكثرة المطلّع عليها من الآراء والأفكار والتصورات مادامت تُقابل أو تتُلقى بحسّ نقدي كاشف واسلوب علمي منظم.
ينبغي أن لا تسلب منا الحقائق المروّعة لهذه الأفكار وما جرّته على البشرية من دمار واستعمار وحروب واستغلال... وأن لا تسلب منا العقل وتأسرنا العاطفة ونتعامل مع من حولنا بسلبية، فيما لو تمثّلت الحكمة في الحوار والاطلاع والانفتاح، مادام الحسّ النقدي فعّالاً عند صاحبه.
لانريد هنا ان نركز على الجانب المعنوي في هذا الطرح للبدائل .. لكن يجب في الجانب المادّي أن نتعلّم وندرس كل فروع المعرفة الحديثة، واستخداماتها التطبيقية العملية، ابتداءً من العلوم وانتهاءً إلى السلع التي تسهّل حياة المواطن في العصر الحديث. فهل قدر لنا دوماً أن نكون ((مشترين)) فقط!!. ألا يجب علينا أن نتقن الفنون والعلوم المتّصلة بجوانب الحضارة المادّية ـ وهو الجانب الطاغي ـ حتى نطوّعها لارادتنا ونشارك في التحكّم فيها؟.
فما الذي نحسنه نحن اليوم غير الالغاء والتهميش والتسقيط والعنف ؟ وكيف يحق لنا والحال هذي ان نتشرف بالانتماء للعروبة أو الاسلام الذي اطلق مقولتي النقد والاصلاح؟
يبقى أنّ النهضة ـ حيثما تختطّ ستراتيجيتها ـ بحاجة الى تطبيق ونهوض من قبلنا كشعب ودولة ومواجهة مشوبةً بآلية فردية تطبيقية تتعامل مع هذه السبل في المواجهة. والمنصف ـ هنا في هذا الإخفاق الراهن ـ ينبغي أن يتّهم الأفراد لا الرؤية ..
كما أنّ فقدان هذا التوازن يؤدي إلى الانحسار أوالتبعية أوالانبهار أوالتقليد أو تهميش الإنسان ..ولقد أخفقت الحداثة الاوربية ـ كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري ـ في تحقيق مشروعها كاملاً، مشروع جعل الإنسان هو القيمة العليا... وبذلك فقدت طابعها الإنساني فأفرزت ما يشبه التقيّض لما كانت تطمح إليه في البداية..
وفي العراق لا تكمن مشكلة التطبيق لنظام الحكم العادل او المجتمع الناهض في الدين ، ولا في تعدد الأديان والمذاهب والأثنيات فيه، لأن الخيارات الروحية والانتماءات المذهبية حق شخصي، كما الخيارات المادية والدنيوية، المشكلة في تجاوز هذا الحق الشخصي حدوده ومحيطه الخاص، وتطاوله على المحيط العام، برعاية المؤسسة الدينية في اتجاهها التفكيري الجامد او اتجاهها التكفيري المرعب ، وفي تطبيق الشريعة الإسلامية كقانون يطبق بشكل فردي وذوق خاص مبتسر وبالقوة في المجتمع ككل..
مع العلم أن الحياة الدينية والروحية لا تقتصر على الدين فقط، لأن الروح تعيش في الممارسات المتعددة الأشكال للحياة الاجتماعية وفي الثقافة الإنسانية وفي غنى هذه الثقافة. ففي الفن والعلم والفلسفة نجد بعض الاشكال من الحياة الروحية التي لا تتعارض مع الدين.
فالرؤية إذنْ ، كيفما كانت ، اذا أقيمت على اساس علمي عقلاني منظم ، فهي لا تحتكر الروحانية ولا تمنع وحدة الشعب في الاندماج والارتقاء إلى مجتمع سياسي تتساوى فيه الحقوق، لكن الذي يعيق هو الامتياز والتسلط والدكتاتورية والجهل والتخلف ، مهما كان مصدره، دينيا أو مذهبيا أو أيديولوجيا أو علمانيا، كما هو شأن أي سيطرة للمصالح الخاصة قد تقف مانعاً في وجه الوحدة والاستقلال والتقدم...
وحينما نصل نحن في العراق لتلمس البديل الموضوعي الاصيل اي مفهوم العلمية المرتكز على الاساس العقلاني،ونبدأ بتطبيقه الشامل في جميع نواحي حياتنا الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية والثقافية ..يحق لنا حينئذ ان نعارض النقد الموجه لنا ونرفض جميع الافكار والطروحات الدخيلة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق