الفلسفة – اليوم- وثيقة الصلة بالفنّ والتأريخ والأدب والدين والأخلاق وغيرها من العلوم والآداب...اختلفت عن المضمون الضيّق الذي منحه لها أرسطو حينما عرفّها بأنها (معرفة الوجود في ذاته) أي البحث في جوهر الوجود, فإنّ ذلك التعريف مع كونه يصطدم بتعريف الوجود ذاته وطبيعته وموضوعه, يجعل من الفلسفة بحثاً نظرياً مجردّاً متعالياً لا إرتباط له بنوعية الفعل الإنساني المؤثر الحكيم الخلاقّ المستند إلى أصول وقواعد ومبادئ أخلاقية ودينية, تصبّ في الصميم من مجموع المعارف الإنسانية...
لكننا للآن نجد بعض الفلسفات الإسلامية تختصّ بموضوعة الوجود المطلق وما يرتبط به من مباحث ذهنية وعقائدية وأخلاقية, ولا تتعداه إلى غيرها مع تطوّر العلوم وتعقدّ الحياة وتجدد مطاليبها ورؤاها وإشكالياتها..
والأخيرة تخالف روح الفلسفة وأقدم تعاريفها (حبّ الحكمة) , إذْ إنّ الحكمة لاتختصّ بمعرفة مباحث الوجود المطلق, فالحكمة المعاصرة تستدعي وضع مناهج وفلسفات ورؤى لتطبيقها بشكل عملي, مع نوع من التطلّع نحو الكمال والرقي والإحاطة ومعالجة مشكلات الواقع المعقّد والعصر المتغيّر, وليس من الحكمة والإعتزال أو الدوران مع مباحث ذهنية مجرّدة أو الغوص في فد لكات وشروح كلامية لإظهار براعة علمية وفلسفية!!
المهمّ أنّ الفلسفة ليس إنعكاساً بسيطاً للواقع أو الزمن أو التأريخ, بل هي تفاعل حيّ جدلي بين الفلسفة وواقعها, تسهم في إعادة بنائه وتشكيله ضمن شروط وحدود وقواعد, ففي كل عملية تفكير فلسفي عودٌ إلى الأصول النظرية الأولى وخطوة إلى الأمام.
ولذا فالفلسفة في موضوعها ومضمونها ومنهجها وتأريخها مرتبطة بالإنسان والحياة والتاريخ والسنن والقوانين الكونية التي تنظمّ التحولات الإنسانية والعالمية والإجتماعية والحياتية في مختلف المجالات, وهي كلمّا إرتبطت بالواقع المعاش أكثر, إزدادت أهميتها وأثريت بحوثها وتمتّن صدقها وتأصّل جذرها.
(إنّ صدق فلسفة ما وأصالتها يكمن في تأليفها بين ما هو مؤقت وما هو دائم, بين ما هو زماني وما هو أبعد من زمانها, أي في تركيبها الخاص والعام, في حركتهما وقوانين هذه الحركة وتبدّلها, هو تركيب غير حسابي, إذا صحّ التعبير, ولا يتحدّد بكيفيات ثابتة ومطلقة إلاّ في عموميات تصلح لكل زمان وأرض وشعب).
فإذا كان هذا هو مضمون العملية الفلسفية وهمهّا الأساسي بحيث تكون نشاطاً إنسانياً محموماً ومفهوماً, فيسهل الحديث حينئذٍ عن إرتباطها بالأدب والفن والجمال والرؤى الجمالية الأخرى , إذْ إنّ الأدب أو الفن في حقيقتهما هما عبارة عن التجربة الإنسانية المعاشة في الواقع أو في الخيال أو الذهن أو الشعور منقولةً إلينا عن طريق آليات جمالية تعبيرية أو تصويرية.
فالأدب والفنّ, نصّاً شعرياً أو قصصياً أو مسرحياً أو عملاً أدبياً أو فنياً آخر أو لوحةً أو غير ذلك, هما الحدث أو الفكر بشكل جمالي إيحائي تخييلي, فهي تجربة جمالية بعد تجربة واقعية, ولذا تكون العلاقة بينهما أي علاقة الأدب والفن بالواقع والحياة والمجتمع علاقة وطيدة تفاعلية جدلية...
وهما فعّاليتان جماليتان إرتفعتا عن مواضعات العادة, وإخترقتا المجال التقليدي للتعبير إلى حيث التخييل والسحر والجمال وتحويل الواقع إلى(لا واقع) , لكن يبقى الواقع هو مادة الأدب والفن وركيزتهما الأساسية...
أمّا علاقة الفن والأدب بالأفكار فهي تتمثل بعملية وعي الأدب للواقع, فإنّه أي الأدب أو الفن حينما ينقل لنا التجربة بجمالية متفردة وخصيصة إبداعية ساحرة,في الحقيقة ينقل لنا وعيه المرشح للظاهرة أو الحدث الذي جرى على سطح الواقع.
وهذا الوعي المترشح من التجربة الواقعية والجمالية أي من خلال مرحلتي الإبداع, هو عملية التفكير التي يبديها الأديب أو الفنان من خلال نتاجه وعمله, فالشاعر والقاص والرسام والناقد والمسرحي هم مفكرون لكن بطريقة جمالية, يتركون للإبداع لحظته الناطقة دون أن يتقيدّوا بلون معرفي معين أو نمط تفكيري خاص, مع الاتفاق على ضرورة الهدف والغاية وأصالتهما.
وعوداً على بدء , نتساءل ما هو إرتباط الأدب والفن والجمال بالفلسفة؟
ولا أعتقد أنّ الجواب بنفس اليسر والسهولة التي نجيب بها عن علاقة هذه الثلاثة بالأفكار عموماً, فإننا معنيون بميدان أكثر خصوصية, ألا وهو تداخل الفلسفة ـ بما هي نمط تفكيري خاص ونشاط إنساني يعقلن عملية التفكير ومنهجها الذي يؤسس قواعد العلم الأكثر عمومية وشمولية ـ بالأدب ـ بما هو واقع وفكر منقول إلينا جمالياً وإبداعياً ـ.
وتتضح الإجابة عن التساؤل الآنف حينما نلتفت إلى أنّ النظرة إلى الجمال هي نظرة فلسفية, والصفة الأساسية التي يمتاز بها الشاعر ـ عند غويو ـ في جوهرها هي الصفة الأساسية التي يمتاز بها الفيلسوف. فما يلهم الأديب والفنان هو إحساسه العميق بالأشياء وقدرته على إبداع نص جميل يدعونا لمعايشتها معه ثانيةً على الورق, وعملية الإحساس العميق بالأشياء وطبيعة النظرة تجاه الظواهر والأحداث والأفكار بحيث يكون للمبدع رأيه الجمالي الخاص بها كلّها, هي نوع من التفكير الفلسفي دون أن يعني هذا ضرورة إنسحاب أدوات الفلسفة ومفرداتها وتقنياتها ومناهجها إلى العملية الإبداعية هذه .
فالأديب والفنان ـ بكلمة ـ لا يمارسان تفكيراً فلسفياً, لكنهما يبديان وعياً فلسفياً بالأشياء والأحداث والظواهر. وإذا كان الأدب أو الفن هما وعي الواقع جمالياً, فإنّ الأدب الفلسفي هو وعي ذلك الوعي, أي وعي مركّب. فهي عملية واحدة يرتبط فيها الوعي الفلسفي بالوعي الجمالي.
هذا بالإضافة إلى كون الحكمة بشكلها المعاصر تستدعي وضع مناهج وفلسفات ورؤى لتطبيق أنماط التطلّع نحو الكمال والرقي ومعالجة إشكاليات معقدّة لواقع راهن وعصر معقد متغيّر...ففي نص (إنّ من البيان لسحرا) دلالة واضحة على أنّ الأدب هو تحويل الواقع إلى سحر, خيال, لا واقع, جمال. ليرتفع بذلك عن الكلام العادي ويؤثر في حاسّة المتلقي ويدعوه للتفاعل مع المضمون الذي يطرحه النصّ, فإن كان المضمون فكرةً ملتزمة عن الحياة أو الحقيقة أو الوجود أو الكون أو شيء آخر, فإنه سيتخذ العمل الإبداعي والصناعة الجمالية النصيّة شكل الفلسفة المسمّاة بالمقطع الآخر بـ(الحكمة).
لكن الأدب وحتى الفلسفة اتجاهات ومناهج وأنماط تفكيرية مختلفة, فيما النصّ النبوي الشريف يشير إلى أنّ افضل هذه الإتجاهات هو السحر المنطوي على الحكمة, أي العملية الإبداعية أو العمل الأدبي والفنّي المرتبط بفلسفة الحقيقة والحقّ (الحكمة)..و(من البيان), وليس كلّ الشعر وكل البيان, هو عملية أدبية فلسفية حِكمية مجدية.
والآن لقد أصبحت العواطف والمشاعر ـ مع تقدمّ الحياة وتعمقّها ـ مشبعة بالأفكار, وأضحت بذلك أكثر عقلية. وذلك لأمر بالغ العمق في علاقة الأدب بالفلسفة. هي الخلفية القائمة فعلاً دون أن يرتبط ذلك بإدراكنا ضرورة..وفي الفنون والآداب العربية والإسلامية, ما يشير إلى هذا الترابط الجدلي بين الآداب والفلسفة, والدور الحاسم الذي تمثلّه التغيرات والتحوّلات التأريخية في مجالات الدين والسياسة والإقتصاد والكلام, في مجمل البناء الأدبي والفنّي وأشكالها مضموناً وهيئةً ومادةً..وهذا ما يتطلب إدخال منهجيات الكتابة الحديثة وقراءتها وآليات التعبير الحديثة في العملية الابداعية ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق