في عام 1848 ولد الاتحاد السويسري، وظل النظام الكونفدرالي في الأذهان، وظلت التسمية الرسمية لدستور الدولة السويسرية، والذي ما يزال يسمى (الدستور الكونفيدرالي) استصحاباً للاسم القديم الذي بدأ به الاتحاد السويسري .
وأخذ الاتحاد مساراً باتجاه التطور، وفي نهاية القرن تنامت صلاحية الاتحاد باحتكار حق إصدار النقود والحوالات المصرفية، قانون الجزاء، وشرطة مراقبة الحبوب والمواد الغذائية، وكذا قطاع التعليم وفي الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين، شمل التوسع شؤون الملاحة، ضمان الشيخوخة تنظيم سير السيارات والملاحة الجوية، الحياد، نظام معاملة الأجانب، والرسوم والطوابع.
وتعيش في ظل نظامها جماعات متعددة تتعايش فيها بالتوافق، فالسلطات موزّعة ومتآلفة، والامتيازات التي تحتفظ بها الولايات هي أكثر أهمية مما هي عليه في معظم الاتحادات الأخرى، كما أن السلطة تتسم بصفة التداول السلمي المتاح للجميع، إذ إن تدخل المواطنين المباشر معترف به ويمارسه المواطنون بشكل لا يحدث في أي بلد آخر، والسلطة تعتمد أسلوب المشاركة، والجهاز التنفيذي موسع يتبع طريق الإدارة الجماعية، ويشترك على الدوام في أعماله أهم القوى السياسية والأطراف المقيمة في الولايات، بإدارة شؤون الاتحاد.
أنشئت دولة سويسرا الاتحادية أصلاً من أجل تأمين إيجاد سوق مشتركة واحدة، وألغيت الجمارك بين الكانتونات الـ 23، ووضعت تعرفة خارجية مشتركة، وضمنت الجنسية السويسرية حرية تنقل الأشخاص، وحصلت السلطات الاتحادية، علاوة على امتيازاتها في الشؤون الخارجية، والعسكرية والنقدية، على صلاحية توحيد الأوزان والمقاييس وإقامة بنى تحتية وطنية، ومقابل هذه التحفظات، احتفظت الكانتونات بصلاحيات حاسمة في مجال التشريع، في الشؤون المدنية، الجزائية، التجارية، والاجتماعية، وكذلك فيما يتعلق بمهام الشرطة، والعدلية أو التربية.
وفي عام 1874، لم تغير إعادة النظر الشاملة في الدستور نظام الحكم، ولكنها دعمت صلاحيات الدولة الاتحادية، وفي الوقت نفسه أقامت المحكمة الاتحادية، وأقرت قبول الاستفتاء وأسقطت الرأي بالمبادرة الشعبية..وهكذا توطدت أركان ديمقراطية المشاركة مزودة بنظام مبني على التوافق.
والكانتونات تنظّم نفسها وتضع أنظمتها بكل حرية، وفيما يتعلق بهذه النقطة، فإن صلاحياتها الدستورية لا يحددها سوى الالتزام باحترام قواعد الديمقراطية، وبأتباع إجراءات الديمقراطية المباشرة وإقرار دستور إحدى الكانتونات ينبغي أن يكون شعبياً، وإعادة النظر فيه أو تعديله يجب أن تستطيع طلبهما أغلبية من المواطنين.
وفيما يتعلق بتوزيع الصلاحيات بين الكانتونات والكونفدرالية (أي بين الولايات والاتحاد) فإن الدولة الاتحادية ليس لها سوى صلاحية ما ينسب لها من سلطات، وتحتفظ الولايات التي يضمها الاتحاد بصلاحيات الحق العام والمشترك، والصلاحيات غير المسندة للسلطة الاتحادية تعود حكماً للكانتونات، والتي تتمتع بصلاحيات متبقية تسمح لها بالدخول في المجالات العائدة إلى الاتحاد، وعلى هذه الأسس، في سويسرا، كما في الدول الأخرى، يبدو التطور يتجه نحو المركزية.
إن أسلوب الائتلاف والتوافق كالذي تتبعه سويسرا، إنما هو أسلوب نابع من التاريخ والثقافة، ومن الحياة السياسية، قبل أن يدوّن في القواعد والقوانين الدستورية، والنمط السويسري يقضي بجعل البلاد تدار من قبل التحالف بين الأربعة الكبار (الحزب الديمقراطي المسيحي – الحزب الراديكالي الديمقراطي – الحزب الاشتراكي – الاتحاد الديمقراطي الوسط).. إلا أن النظام الانتخابي في سويسرا الذي يعتمد التمثيل النسبي سمح لهذه الأحزاب الأربعة بالتواجد في الهيئة التشريعية السويسرية وتشكيل الحكومة.
وإذا كان نظام الحكم نظام جمعية، فإن الأسلوب ليس كذلك، إذا إن الجمعية الاتحادية لا تجتمع إلا بصورة متقطعة، والمجلس الاتحادي هو الذي يدير فعلياً شؤون البلاد، وأعضاؤه المنتخبون لمدة أربع سنوات، يعاد انتخابهم، ومتوسط بقائهم في السلطة يصل على العشر سنوات، ويلطف مبدأ التوافق بين القوى السياسية، بصورة جدّية، قواعد الاستقلال بين السلطات. والجمعية الاتحادية والمجلس الاتحادي يعملان معاً بكل انسجام.
بعد دراسة النموذج الفيدرالي السويسري، والتعمق فيه يكتشف الباحث بأن قضية الفيدرالية ليست قضية تسميات وهي أوسع من التنظير أو تحديد أطار نظري لشكل الدولة الفيدرالية ، بل يجزم البعض أن النظام الفيدرالي ليس نظاماً قانونياً صرفاً بل هو نظام واقعي يخضع لكثير من التدابير غير المتناسقة في سبيل احتواء نزعة الاستقلال والانفصال وتعزيز مفهوم التعايش السلمي..
واحترام التعددية القومية والدينية هو من أهم مبررات نشوء الاتحاد الفيدرالي السويسري وقد عزز هذا المبدأ بالقرارات القضائية التي صدرت في سويسرا وفي غيرها من الدول الاتحادية، ففي قضية عرضت على القضاء السويسري على اثر نزاع نشأ بين سكان مدينة (Kriessern) التي يسكنها (الغجر) الذين يتحدثون اللغة الرومانتشية و أحد السويسريين الذي انشأ بارا في تلك المنطقة كتب عليه بالايطالية (بار الأصدقاء) وطلب سكان تلك المدينة تغيير اللغة التي كتبت بها اللافتة من اللغة الايطالية إلى اللغة الرومانتشية واصدر القضاء السويسري في تلك القضية قرارا يقضي بضرورة احترام اللغة السائدة في الكانتون وجاء في حيثيات القرار ( إذا تعارضت الحرية الفردية مع الأمن والسلم الاجتماعيين فيجب تقييد الحرية الفردية لمصلحة الأمن والسلم الاجتماعيين ).
التعريف بنموذج التعايش والتعددية واحترام الآخر في سويسرا هو تعريف بواحدة من أهم وأغنى تجارب الحكم الديموقراطي في التاريخ المعاصر هي التجربة السويسرية التي يمتد عمرها إلى سبعة قرون خلت حيث تأسس أول اتحاد سويسري سنة 1291 بين ثلاث دويلات "ولايات / محافظات " انضمت إليها فيما بعد خمس أخرى .
المهم هو استخلاص العبر والدروس من تجربة قادمة من مجتمع متنوع لغويا وقوميا وطائفيا ودينيا ، مجتمع جعل من هذا التنوع مصدرا للثراء والإخصاب الحضاري والاستقرار السياسي والتقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي بعد أن كان مصدرَ شرورٍ وحروبٍ أهلية وإقليمية واضطرابات كثيرة سفك السويسريون خلالها دماء بعضهم البعض ثم انتهى هذا الطور من تاريخهم بقيام دولة اتحادية راقية وحكم قائم على الديموقراطية المباشرة أو ديموقراطية القاعدة كما تسمى أحيانا .
إن هذه الحيثيات المتعلقة بواقع ومواصفات التجربة السويسرية تجعل منها مدرسة ومختبرا تاريخيا جيدا لجميع الشعوب والمجتمعات التعددية وذات النسيج المجتمعي المتنوع قوميا ولغويا ودينيا وطائفيا والطامحة إلى حل مشاكلها سلميا وعبر الحوار والمصالحة والتجريب والتسامح وغير ذلك من تقاليد وأساليب إيجابية أرستها تجارب الشعوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق