بما ان الدولة العثمانية اعتبرت نفسها منبعا للقيم السياسية وإطارا للسيادة جامعا لأمة الإسلام والمسلمين،فقد احدث انهيارها فجوة حقيقية في الواقع العملي للمسلمين،الأمر الذي منح كتاب علي عبد الرزاق الازهري (الإسلام وأصول الحكم) وغيره من الكتب التي تبحث الإشكالية السياسية الكبرى اثارة وجدلا وردود أفعال كثيرة،مست المؤسسة التقليدية في الإصلاح بكل مواريثها ومسلماتها فضلا عن اثارة النخب الحديثة.
وما ذاك إلا لأنها أعلنت عن تفجير المعركة السياسية داخل الإجماع التقليدي الذي حاولت الحركة الإصلاحية السلفية ان تجعله محورا للتجديد وأداة للنهضة في خضم اهتزاز المقومات الشرعية وكثرة التمزقات وبداية التوسع الغربي.
اما بالنسبة للعالم الغربي فالتصادم بدأ بين الدين والعلم كما هو معروف,أدى لتصادم بين الدين وأسس تشكيل الدولة الحديثة.وليس هوموضوعنا هنا..المهمّ أنه في العالم الشرقي لازال كل من الدولة بما تمتلك من معايير واقيسة والدين بمايمتلك من رؤى وتصورات للسياسة والحياة والمجتمع يعيشان منفصلين..
وحينما بلغت هذه الإشكالية ذروتها باتساع الهوة بين الدولة وأجهزتها ورجالاتها وبين الجماهير ومشاكلها ونخبها المثقفة وهمومها الحركية،ظهرت بوادر الصحوة والمد الإسلامي الذي ينتقد الدولة وممارستها ويلغي الفاصلة الوهمية المتولدة من الإشكالية المذكورة،على خلاف رهان الدراسات الوضعية التي تؤمن بان مستقبل الدين يتجه نحو خيار العلمنة او العولمة،وانه ستتراجع المكانة الدينية على ضوء الإشكالية السابقة وتتخلى عن مقولة السياسة والدولة والحياة العامة لصالح قيم التحديث وإفرازات النظام العالمي الجديد؟
وخلاصة الأمر انه اذا كانت المجتمعات الغربية المسيحية التي أفرزت الحل العلماني قد عانت من سيطرة رجال الدين والكنيسة على الدولة وتغلب القيم الكهنوتية المعادية للعقل على الوعي والثقافة،فان المجتمعات العربية الإسلامية قد رزحت لفترة طويلة تحت نظام سيطرة رجال الدولة على السلطة المطلقة وغلبة الروح الذرائعية على الوعي والممارسة بما في ذلك الممارسة المدنية نفسها.
وهذا الغرض يستدعي الغاء كل المسافات المصطنعة بين المسلمين أنفسهم وإشاعة النزعة الى استثمار القيم الدينية في العمل السياسي الموحد،ونبذ التمزق والفرقة التي تهز الواقع الإسلامي والاعتراف بمرجعية إسلامية مؤسساتية نقية كأساس ومنبع لهذه القيم وصولا الى الحل الإسلامي الصحيح الذي يعيد بناء المجتمع والدولة وينظم الحياة والقانون بشكل عادل.
احتل مفهوم السياسة في بداية القرن العشرين – وهي فترة ظهور وتبلور التيارات الاسلامية الحديثة – حيزا كبيرا في البنية التاسيسة لخطابات رجال الاصلاح ورواد النهضة، لاخراج الامة من سباتها وتنبيهها نحو الخطر القادم اليها من الدول الغازية وهي مسلحة بالآلة الحربية المتطورة والماكنة الدعائية.
وقد اخذ هذا المفهوم ابعاده الحركية على الصعيد الاجتماعي والسياسي آنذاك، وراح المصلحون الاوائل ينادون باعادة تطبيق الشريعة في الحياة العامة كحل ناجع لاشكاليات ذلك العصر الذي كان يتعرض لهزة عنيفة في بناه الاجتماعية وانساقه الحياتية ،فاثيرت قضية التشكيك بان الدين غير قادر على مواكبة العصور وتحدياته ولا بد من فصله عن السياسة.
فالسياسة –وفق النظرة الدينية الحديثة- من اصل الدين, لكن بهذا الاعتبار أي : اعتبار ان النهوض والتحرر هو جزء حيوي من حركة الدين واساسه الفكري , لا باعتبار ان الدين هو الموجه لحركة السياسة ونظام الحكم وان غيره لا حق له في ذلك , اذ تستبطن النظرة الاخيرة صورة مشوهة عن الدين باعتباره الغاء للاخر واستبدادا مقيتا مناقضاً للدين .
هذا ،فيما يغض النظر هذا الخطاب الجبري الأخير, عن المشروع الحضاري الكبير الذي اطلقه الدعاة من علماء هذه الامة ومصلحيها لدحض وتفنيد ادعاء الفصل بين الدين والسياسة، حينما اطلقوا مشروعا يتجاوز موضوع اقامة الحكومة الاسلامية والمطالبة بالامساك بزمام الامور السياسية ؛ وهو مشروع النهضة والاستقلال والوعي والمواجهة وبناء الذات وتأسيس ملامح الفكر المعاصر وتفعيل الحس النقدي في محاكمة الموروثات الخاطئة واعادة قراءة النص وفق معطيات العلوم الإنسانية والثقافات البشرية ، بل واعادة ربط العبادي بالسياسي:
يقول المفكر الاسلامي الشهيد محمد باقر الصدر ( ان العلاقة الاجتماعية تتواجد غالبا بصورة او باخرى الى جانب العلاقات العبادية بين الإنسان العابد وربه في ممارسة عبادية ذات دور اجتماعي في حياة الإنسان، ولا تعتبر ناجحة الا حين تكون فاعلة في توجيه ما يواكبها من علاقات اجتماعية توجيها صالحا).
فالدولة هي عبارة عن المؤسسة التي تبحث في التنظيمات البشرية التي تكوّن الوحدات السياسية وفي تنظيم حكوماتها وفعالياتها، هذه الحكومات التي ترتبط بتشريع القوانين وتنفيذها، وفي علاقتها بالدول الأخرى، كما تبحث في العلاقات التي بين الافراد والتي تخضع لرقابة الدولة، وفي علاقات الافراد او المجموعات بالدولة نفسها، وفي علاقات الدول بعضها ببعض، وتبحث في تطوير السلطة السياسية وحرية الفرد .و الموضوعات التي تهم هذه العلوم بصورة رئيسية هي الدولة والحكومة والقانون، كما ينص المتخصصون في هذا المجال.
اما الدين فهو مجموعة من الاحكام والعقائد والمقررات التي جاء بها الوحي الالهي لغرض تنظيم حياة الانسان في كل ما يحتاجه من امور الدنيا والاخرة. (وفيه طرفان: طرف منه يتصل بعقيدة الانسان ويقينه، وطرف اخر منه يتصل بسلوكه وحياته الاجتماعية).
وحينما جاء الدين الاسلامي كدين خاتم للبشرية جمعاء جاء بمجموعة من القيم تنبسط على نواحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وفي القضية السياسية علّم البشرية جملة من المفاهيم كالعدل والحرية والحقوق والواجبات والمواطنة والانتماء والمشاركة والاختيار والمشورة وما شابه ذلك. ولم يات بصيغة محددة لنظام الحكم، ابعادا للدين عن الادلجة والتسخير والاستبداد والاستئثار.. هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى فالدولة -كمفهوم، لا ينطوي تحتها نوع معين من الأنظمة الناشئة عن ايديولوجيا خاصة..وبهذه النظرة التصالحية يصاغ تعريف جديد معاصر للدين يتآخى مع الدولة ويكون عونا وإضاءة لمشروعها السياسي،فالدين هو القوة المدخرة للدولة اذا أحسنت استخدامها وهيأت لها الظروف والحريات التي تجعلها حية متطورة وفاعلة في الصنع والنهوض وبناء المجتمع الخير والعقل النير ، بدلا من معاداتها وعزلها.
( وقد اظهرت التجربة ان اقوى الطرائق اثرا في حل هذه المشكلة هو ان نسمح لمؤيدي كل اقتراح ومعارضيه بالادلاء بارائهم بحرية تامة،لان الاراء والمقترحات الصائبة الخيرة ستنال في المدى البعيد القبول العام و تشجب الاقتراحات الرذيلة) كما يقول اوستن رني في (سياسة الحكم).
وحينئذ سوف تصرف الجهود الدينية بكل ما تملك من ركائز مؤسساتية وفكرية ومالية لخدمة مقاصد الدولة العادلة المتحضرة ،بل سوف تتحول هذه المقاصد الخيرة الى قيم دينية لان الهدف الاعلى من التشريع الاسلامي هو ان تزدهر وتسود القيم الحضارية الخالدة في المجتمع.
فالعدالة الحقيقية والحرية الصحيحة والمساواة الواقعية والتوازن والتكافل الاجتماعي والوحدة والاخاء ومقاومة الظلم والاستعباد ونحوها، قيم حضارية تعمل مجتمعة على ادامة توجه الانسان في حركته .
فالرؤية الدينية – وفق العقلانية الحديثة- تؤمن بان استيعاب الشريعة الاسلامية في مضامينها واحكامها لكافة ابعاد الانسان في حياته الفردية والاجتماعية والسياسية ، تعقلن ايضا مفهوم المشاركة السياسية وتنحوبها الى حل اشكالية التقاطع بين الدين والدولة من خلال اجراء المصالحة التي تؤمّن للطرفين حقوقهما.
فالدولة ايا كان شكل نظامها وطبيعتها الادارية, وسواء قلنا ان الاسلام جاء بنظام سياسي محدد الابعاد والمعالم ام لا، وايضا سواء قلنا ان الاسلام يتلاءم مع الديمقراطية او العلمانية او الاشتراكية ام لا، وسواء قلنا ان الاسلام يهتم بصياغة انظمة الحكم ويسعى الى ايجاد حكومة اسلامية ام لا.. فالدولة لا بد ان تكون عادلة.
وهذه الرؤية العقلانية لعالم السياسة تظل تجاهد حتى ارساء دعائم دولة عادلة مستنفرة كل رؤاها وطاقاتها، وحين تحقق غايتها وتتهيكل اركان العدل في الحكومة يبدأ مشوارها الحقيقي ( فان اصحاب الرؤية الثانية ينطلقون في تصورهم للنظام الاسلامي في عالم السياسة وحقوق الانسان من موقع عقلاني ورؤية علمية تنسجم مع معطيات الواقع المعاصر في تحدياته الكثيرة وتعقيداته المتشابكة وادخال عنصر الفعل او الوجدان كمصدر مهمّ من مصادر التشريع ، لا بما هو موصل فقط لمراد الشارع المقدس من ظواهر النصوص وكاشف عن الحكم الشرعي المقرر في التراث الديني.
ولهذا كان من الضروري على اساس هذه الرؤية الاهتمام الشديد بمعطيات العلم والمعارف البشرية المعاصرة لفهم الحكم الشرعي بصورة افضل واقرب الى الواقع والعمل على صياغة مفاهيم جديدة عن الحق والحرية والعدالة تتناغم مع ما تعيشه البشرية من تغيرات متسارعة في منظومة القيم الاخلاقية والحقوقية من جهة، وتنسجم مع تعاليم الاسلام ومبادئ الشريعة السماوية من جهة اخرى).
وهذا ما تستدعيه طبيعة المرحلة الراهنة بكل تداعياتها كما انه هو الذي يتطلبه طبيعة استشراف تعاط صحي مع مستقبل (مرعب) بشّر بصداماته صاموئيل هانتغتون قبل اوانه و اوحت به العولمة وفتوحاتها المدعاة واختزله اصحاب مشروع ( القرية الصغيرة )، ففي هذه الاجواء توجد سلسلة من الاسئلة - كما يقول – محمد مجتهد سبستري- والحفاظ على سفينة المتدينين في هذا البحر المتلاطم الامواج يقتضي تشخيص العلاقة بين المعارف الدينية والثقافية البشرية بدقة، ويفترض الحديث عن الدين والتدين بطريقة ذات معنى مفهوم يتناسب مع واقع العصر ومفرداته المتطورة.
فـان الالتزام بحياة تقوم على اساس الدين والاستفادة من الوقت نفسه من فتوحات العلم الحديث وانجازات الحضارة الحديثة يعتبر في مجتمعاتنا من المشاكل الفكرية – والعلمية التي لم يسبق لها مثيل، ولا يمكن تلمس هذه المشاكل وايجاد الحل لها الا بتعيين وتشخيص طبيعة العلاقات والوشائج التي تربط ما بين الدين والعقل والعلم.
وهكذا نحلّ الاشكالية التقاطعية بين الدين والدولة التي يصورها الخصوم،ولا نحتاج بعد ذلك الى الحلين المطروحين سابقا اعني،الحل الذي تطرحه العقلية التقليدية الصارمة المطالبة بتطبيق حكومة السلف واسقاطها على التجربة المعاصرة للمجتمعات الاسلامية،والحل الذي تطرحه الصوفية الحديثة التي تعزل الدين في زاوية العبادات والاحساس القلبي بعالم الغيب...
كما اننا حينئذ سوف نركز جهودنا ونكرس طاقاتنا من اجل الخوض في تاسيس مجتمع و فكر اسلاميين معاصرين يستطيعان مواجهة الراهن المنفتح على كل شيء والملتهب بحرارة الاكتشافات والتحولات المختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق