لابد من القول اولاً أن نؤكد أنّ عصر الحداثة هو في تطور مستمر، بهدف التعاطي المجدي مع التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية، عبر عقلانيته النقدية. ولكنّ مشروع الحداثة، الذي بدأ منذ عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، قد أوصلنا إلى مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية هي مرحلة ما بعد الحداثة. فقد نعى الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار عصر الحداثة، حيث رأى أنّ أهم معالم المرحلة الراهنة للمعرفة الإنسانية، هو سقوط النظريات الكبرى وعجزها عن قراءة العالم. وفي المقابل، فإنّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وريث مدرسة فرانكفورت النقدية، نشر مقالة هامة تحت عنوان " مشروع الحداثة لم يكتمل بعد "، وهكذا، تظل الحدود ما بين الحداثة وما بعد الحداثة متداخلة متشابكة، وهذا ما دعا بعض المفكرين إلى القول: إنّ ما بعد الحداثة ليست نهاية الحداثة، بل كامنة في حالتها الوليدة، وهي حالة مستمرة.
لكن اثارة هذا الموضوع ليس هو تزكية للثقافات الغربية او محاولة فرض الامر الواقع كما يبدو ،قدر ما يكون تعظيما للجهود الثقافية التي تؤمن بجدل الافكار والثقافات وحوارها في اطار المصالح المشتركة ،،فنحن نعيش في عالم بات خاضعا لمنظومات اتصالية سريعة ومعقدة ،وان انماط العلاقات الدولية وصلت الى درجة من التعقيد والتشابك للحد الذي تحوّل بعضها الى اشكال للاحتلالات العسكرية والاقتصادية ومحاولات فرض نظم ومفاهيم ومصالح في سياق فرض سياسات جديدة للاصلاح والديمقراطية تحت عناوين السيطرة على ثقافات العنف وعدم تحويل الثروات الهائلة الى مصادر لتخريب الحضارة الغربية..
يتميز الخطاب الثقافي في الواقع ، في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحوّلات في هذا الزمن المتغيّر، بأنه خطاب إشكالي: فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والإيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. ومن جهة ثانية، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقدم. ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد.
ولعل أحد أهم ملامح أزمة الخطاب الثقافي المعاصر تكمن في محاولة التعرف على عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة/ثقافة ما بعد الحداثة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا: الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية، وتعدد الثقافات، والعنصرية، والأقليات، والهجرة. وإزاء كل ذلك، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص هذه التحوّلات العميقة بداية.
ولعل منبع تجدد الإشكال الثقافي اليوم راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين: أولاهما، الالتزام الجماعي بمقتضيات الكونية الناتجة عن مسار تَوَحُّد البشرية واقتران مصائر أبنائها، من خلال الثورة الاتصالية والاندراج في الاقتصاد العالمي. وثانيتهما، الإقرار النظري والمعياري بحق الثقافات في الاختلاف والتمايز وتماثلها من حيث القيمة والمشروعية. والواقع أنّ مكمن الإشكال عائد إلى صعوبة صياغة تأليفية لهاتين الحقيقتين.
ومما يزيد الأمر تعقيدا أنّ الثقافة الكونية، التي وجدت في ثورة الاتصالات مرتكزا وفرصة للانتشار الهائل، تتوقف عند بعض الرموز والإشارات التي يمكن فهمها والتعرف عليها في كل مكان، مهما تعددت الثقافات المحلية وتنوعت.
وبعيدا عن المبالغات والتوصيفات والتهويمات الإيديولوجية، فإنّ مظاهر العولمة كلها تشير إلى أنّ الإنسانية تتجه نحو ثقافة عالمية ومشتركة، فلم تعد منظمة اليونسكو تتردد في الحديث عن أخلاقيات عالمية جديدة. ففي تقريرها عـن " التنوّع البشري الخلاق " دعوة واضحة إلى عولمة تتسم بوحدة وتنوّع الثقافة الإنسانية معا. وقد أصبح الشعور بوحدة هذا الكوكب حقيقة وليس مجرد أمنيات، سواء أكان ذلك من خلال سرعة التعرف عما يجري في العالم، أو الإحساس بمشكلات قد تتجاوز حدود الدول مثل: الإرهاب والمخدرات والأوبئة والجريمة المنظمة وغيرها.
ثم أنّ معظم الشواهد تشير إلى أنّ أثر العولمة يكرس من الخصوصيات الثقافية بالمقدار نفسه، إن لم يكن أكثر، من نشره لقيم عابرة لتلك الخصوصيات. فما توفره العولمة من آليات تواصل وتكنولوجيا هي برسم الاستخدام من قبل أية ثقافة على الأرض، وهو ببساطة أمر غير مسبوق تاريخيا. وفي الحقيقة أنّ المستفيد الأكبر من التعولم الحالي هو الثقافات الأقل حضورا من الثقافة الغربية، حيث وفرت لها وسائل العولمة الاتصالية قدرة على التواصل والإنتاج ما كان لها أن تتوفر عبر الوسائل التقليدية.
ومن جهة أخرى، ليس غريبا أن يربط كثيرون بين فكرة التنوّع الثقافي والنظم والمعتقدات الليبرالية في الغرب، فالفكرة بمضمونها المعاصر نشأت وتطورت في الدول الغربية، واقترنت بمسألة حماية الأقليات وضمان حريات الآخر. ولكن لا يمكن التسليم بصحة اعتبار الليبرالية الحاضن الفكري والسياسي للتنوع الثقافي على نحو مطلق، بدليل أنها لم تحل دون معاداة أغلبية الأوروبيين والأمريكيين والكنديين والأستراليين لقيم وأنماط سلوك وثقافات مواطنيهم ذوي الأصول غير الغربية، وخاصة العرب والمسلمين منهم.
وهكذا، يشهد العالم مرحلة إعادة نظر جذرية في قضية الثقافة، بل إعادة اعتبار لها من زاوية استراتيجيات المستقبل، خاصة وأنّ التطورات الجارية تبشّر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي.
ولاشك ان الدخول السياسي الثقافي الاقتصادي للمشروع الغربي بنسخته الاميركية الى العالم الشرقي لفرض اشكال الثقافات الليبرالية في ادراة الدولة والاقتصاد والتعليم ،قد اعتمد على توظيفات ثقافية تاريخية ومعاصرة تتجوهر في اساسها على اعادة انتاج مركزة القوة الكونية بدءا من ثقافات هيغل في مفهوم الدولة القوية الى طروحات فوكوياما وهنتنغتون وغيرهما من اساطين الثقافة المسيحانية الجديدة.
لا نريد ان نغمط حق الحضارة المادية وما حققته من انجازات لسعادة الانسانية، ولا نريد ان نقلل من شان حتمية متابعة العلوم والفنون والآداب.. الا اننا هنا ـ في العالم الآخر ـ امام منهجين في التعامل معها سواء كان استهلاكا واستفادة او كان من جهة السير على خطواتها العلمية في البحث والاكتشاف.
الاول: هو منهج القطعية المعرفية عن هذه الحضارة، وسد الآذان عن فكرها وصناعتها، وعزل المجتمع بشرائحه المختلفة عما يسمى بثقافة المشاهدة التي تحتل فيها الدول الغربية حصة الاسد من التبليغ والاعلام لنفسها، وهذا ـ عند اصحاب هذا المنهج ـ كفيل بالتأمين على القيم والمبادئ وصيانة الهوية والانتماء، ومقاومة التمييع في بوتقة ( الأمركة ).
الثاني : هو منهج فسح المجال امام الشعوب لرؤية هذه الحضارة الممتدة على ارجاء العالم فكرا وثقافة وصناعة، وهذا ـ عندهم ايضا ـ كفيل بتهيئة اجواء التفاعل والتاثر الايجابي الذي يصنع انسانا متحضرا يفكر ويبدع بخصوصيات عصره .
وبعد الغاء احتمالية المنهج الاول للناتج السلبي الخطير الذي يشل القوى الفاعلة للانسان، ويعزله عن واقعه الراهن، وهذه مخالفة صريحة لمبدأ قرآني يقرر ضرورة السياحة في الارض والاستفادة من تجارب الاخرين..
بعد هذا يمكننا ان ننظر الى الحلقة المفقودة، في المنهج الآخر وغياب عملية التربية النقدية لدى المواكب لهذه الحضارة ومنتجاتها المتعددة، فكل من نمى عنده الحس النقدي لأسس هذه الحضارة ومكوناتها الفكرية بوعي واتقان ومعرفة وعمق على ضوء البنية المعرفية الاسلامية التي عقدنا الحديث من اجلها، يتمكن من الصمود امام مغرياتها المادية، وينجح في التعامل مع كشوفاتها، ويلتمس المنهج الصحيح والصحي للاستفادة منها ومن مناهجها العلمية لأجل اصلاح واقعه وبلورة رؤية مبدئية للواقع المعاصر وانتشال وطنه الاسلامي الكبير من بؤرة التخلف واشكالية التتبيع.
من هنا تاتي قناعتنا الدائمة بان بناء عالم انساني حضاري على اسس راسخة ومستقرة منالعدالة، والسلام، والتوازن، والتسامح يفرض العمل على موازنة قيم الحرية الاصيلة والاولىوتثبيتها. اي بالسعي الحتمي نحو تعزيز موارد الفرد (والجماعة والامة) وقدراته، وطاقاته،ومواهبه، واستثماره بشكل فعال في حركة الواقع اليومي، وبذلك لا يمكن للحرية بوصفهامعادلة للحوار اذا تركت باطلاق (عشوائي) الا ان تقود الى التفاوت المتزايد والاتجاهي بينالبشر. وما لم تجد الحرية حدودا لها في قيم اخرى، مثل العدالة، والتضامن والاخوةوالانسانية والبيئة النظيفة فلا بد من ان تقود على اي نطاق طبقت، والى اي نظام انتمت الىتفاوت بين البشر، افرادا وجماعات، فتقود من ثم الى طرق مسدودة.
والحرية التي تعني قدرة الانسان على الاختيار يجب ان تكون مسؤولة، وليست حريةمنفلتة او مطلقة. فالانسان مسؤول عن اعماله واختياراته امام اللّه تعالى، وامام المجتمع كلهفي البعدين الايجابي والسلبي.
فهناك ضرورة قائمة الان ذات ابعاد معرفية تاريخية وجغرافية واقتصادية تؤكدمن جديد اهمية اندماج اشكالية «حوار الحضارات» في حوار اشمل واوسع من نظاماقتصادي وسياسي علمي جديد يقوم على الاعتماد المتبادل، والمنفعة المتبادلة والمتعددةبالفعل لا بالاسم، وعلى التعددية والعدالة والتنمية والتكافؤ والندية بما يعزز رؤية سكانالعالم لموقع كوكبهم في الكون ومستقبلة الواحد. وهذا ما يحتم على العرب والمسلمينالسعي المتواصل والدؤوب في اطار حوار الحضارات لمعرفة ايجابيات الحضارةالغربية، ومنها قضايا التعددية السياسية، وحقوق الانسان، وتعميق الحس والنظرة النقديةللواقع بما يعزز هويتنا الحضارية في اطار من التفاعل الخصب والمنتج مع الحضاراتالاخرى، والتعامل الجدي والمسؤول مع المتغيرات والمستجدات العالمية الراهنة، بهدفالاستجابة والتكامل بها ومعها.
وحينما يؤكد الباحث المنصف على ضرورة اخذ ايجابيات الحضارة الغربية على مستوى الاستفادة منالقيم والمبادى السياسية والثقافية السائدة هناك، فان ذلك لا يعني خلو حضارته من هذه القيم، بقدر ما يعني ان نستفيد حضاريا من آليات الحكم في القضايا المعاصرة كالحرية وتداول السلطة، ومجال حقوق الانسان مثلا التي استطاع الغرب ان يصل اليها،ويؤسس لها معرفيا وثقافيا، في داخل منظومته الحضارية قبل الحضارات الاخرى..
واخيراً فان الثقافة الانسانية تمنح الانسان الوسائل المناسبة للتمكن منالحياة على الارض بفاعلية، والتصرف عليها بوصفه الامين والمؤتمن على نفسه، وعلىسواه من عناصر الطبيعة والحياة.
اما بالنسبة للعلم الراهن وتقنياته الحديثة فهما عاجزان عنالقيام بذلك، اضافة الى عجزهما عن البحث في مصائر البشر، وآمالهم وطموحاتهم، او حتىعن رسم مجرد صورة صغيرة عن اهداف البشر وطموحات الانسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق