الخميس، 14 مايو 2009

أزمة الخطاب الليبرالي المعاصر

ظن الكثير أن عقد التسعينات قد مهّد للمثقفين والكتّاب مراجعة الأفكار والطروحات السياسية الشائعة، ولكن ككل مرة حدثت جملة من المراجعات من كافة ألوان الطيف الفكري لم تفض في أغلبها إلا إلى قراءات هامشية، مع استمرار روح السخط واتساع الهوة ما بين الهويات المتنازعة في المنطقة، رغم الإسهامات المتواضعة في الفكر العربي المعاصر إلا أنه لا يزال لدينا نقص كبير وواضح في الفكر السياسي المعاصر.. هناك فجوة كبيرة بين ما يكتب في الصحف والكتب العربية عما هو سياسي، أو ما يفترض أن يكون سياسة، وما بين الممارسة السياسية التي تجرى على أرض الواقع، انطلاقا من قناعة بعض الكتاب العرب والاسلاميين الذين يفخرون بأن ما سطره رواد النهضة وقادة الاصلاح ما يزال صالحا لوصف الأحداث الراهنة، وتحليل المشكلات الراهنة .
ولعل الباحث يقرّ بأن أفكار "المجتمع المدني"، و"حقوق الإنسان"، و"الديمقراطية" قد لقيت رواجا منذ ذلك الحين، ولكنها لم تبارح إطاراتها النظرية، بل البعض يحاول تطبيق هذه المفاهيم حسب طريقته وليس حسب نموذجها الغربي، ولهذا حولت بعض هذه المفاهيم بديلا للشعارات الثورية مع بقاء ذات الممارسة الفوضوية التي لا تحترم القانون، أو النظام العام، أو تؤمن بالتسامح الحقيقي. على الرغم من وجود جمعيات ومنظمات لها إسهام منظور ومتعاظم مهتمة بتبيئة هذه المفاهيم إلا أنها تفتقر إلى لغة خطاب سياسي متطور وواع، وأكثر قياداتها هم من اليسار العلماني الذي يقف موقفا حاداً ضد السلطات المحلية.
تنتمي الثقافة الليبرالية في تأسيساتها و آلياتها الى انماط (تفكيرية) وايديولوجية ارتبطت بمنظومة واسعة من المفاهيم التي اقترنت ايضا بالتحولات الكبرى في الغرب بدءا من تشكلات ما بعد الثورة الفرنسية، وتفكك خطاب الهيمنة الكنائسي ومهيمنات الثقافة البطرياركية في مشروع الدولة الاوربية التقليدية ، وصولا الى ظاهرة نشوء الاحزاب الجديدة (لديمقراطية) ذات النزعات الليبرالية والتحررية و التي تبنت معطيات ما تمظهرت من بنيات فكرية وثقافية وايديولوجية ، اسهمت الى حد ما في نشوء ظاهرة (المجتمع السياسي) في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى ،التي وجدت مظاهرها في انهيار انماط الثقافات المركزية !! وتفكك البنيات الاقتصادية والسياسية التقليدية التي ارتبطت ازماتها بازمات الكساد الاقتصادي الذي اجتاح الغرب الاوروبي واميركا في بداية القرن الماضي، فضلا عن نشوء ملامح العودة الى مفهوم الدولة القومية القوية والذي وجد مظاهره في ايطاليا والمانيا واليابان وروسيا التي سعت الى مركزة مفهوم هذه الدولة عبر السيطرة على قوميات اخرى بحثا عن شكل الدولة القوية..
ومفهوم الليبرالية في الاطار التعريفي يقترن بوجود ديمقراطية نيابية تكون السلطة السياسية فيها مقيدة بدستور الغاية منها حماية حقوق الافراد في المجتمع وتسمى بـ(الحرية لدستورية) كما تعرفها الموسوعة الحرة ،حيث تجد في الديمقراطية الليبرالية تطبيقات اجراءات تستند الى مفاهيم التسامح والتعددية والتي تسمح بتعايش وجهات النظر المختلفة وان يكون التنافس على تسلّم السلطة السياسية في اطار المجتمع، لذلك فنشوء اوليات الخطاب الليبرالي كانت بالاساس هو السعي لمواجهة نشوء هذه الدولة الطاغية ذات المركز العصابي وانماط ثقافاتها القهرية.
فضلا عن ان اليات الفكر الليبرالي كانت تسعى ايضا للبحث عن فضاءات للتفكير الحر والقيم الانسانية العالية مثلما اقترنت ايضا بالبحث عن آليات اقتصادية متحررة تسهم في حراك رأس المال وخلق ثورة جديدة في انظمة الاستثمار الحر مثلما اسهمت في ترسيخ قيم حية وفاعلة للاقتصاد المتحرر من الضواغط التقليدية عبر صياغة مفاهيم متجددة وغير مقيدة للسوق والتبادل الاقتصادي ،والاندفاعة القوية لرأس المال الاقتصادي والسياسي والذي وضعها امام شكوك متعددة تنطلق من انها تمثل احد مكونات ماسمي في الادبيات الماركسية بالامبريالية الاقتصادية ، والتي انعكست معطيات تحولها فيما بعد على الواقع الثقافي والسياسي في العالم، اذ تكرست مشاريع ونظم وجدت اشكالها في اطر صراعية عقدة لكنها اكثر حراكا ،ومهدت لتحولات اقتصادية وسياسية اكثر استعدادا للتغايروالانفتاح على مجمل الخطابات الثقافية المختلفة مثلما بالمقابل ايضا اسهمت في تهيئة العوامل الموضوعية للكثير من الحروب والاحتلالات والكوارث التي طالت الشعوب تحت يافطة اعادة انتاج منظومة العلاقات الدولية.
وربما كان من اهدافها ايضا تدميرمنظومات ما تبقى من الدولة القومية ،واعادة صياغة معادلات جديدة للاقتصاد الحر،وتوفير مصادر جديدة للطاقة والمواد الاولية وفتح منافذ جديدة للاسواق العالمية فضلا عن اعادة انتاج مفاهيم الهيمنة السياسية العالمية وفق انتاج معادلات جديدة للقوة والدولة والنظام الاقتصادي !!
يقابل هذه التحولات نشوء دروس وفلسفات اتجاهات ثقافية استلهمت، اشكالات التحولات الخطيرة في العقل الغربي وصدماته المعرفية بدءا من اثار ماتبقى من صدمة نيشه وانعكاسها على مفهوم المواطن/ البطل ، مفهوم الدولة القومية القوية ذات المزاج الاستعلائي ، وصولا الى الصدمات الحداثية متمردة والوجودية في منتصف القرن والصدمات البنيوية وما بعدها من اتجاهات تبنت انتاج خطاب ما بعد المركز الاشكالي على ايدي فلاسفة الدرس الجامعي بارت وفوكو ودولوز وغيرهم وصولا الى التفكيكيين الذي طرحوا اجندة تفكيك المركز المهيمن باتجاه الذهاب الى اقصى الحرية على ايدي دريدا وهابرماز وغادامير وغيرهم...
مثلما استلهمت مفهوم الحرية كخطاب واليات في المعطى السياسي واجترحت له منظومة من الاجراءات التي ارتبطت فيما بعد نشوء ظاهرة الاحزاب الديمقراطية بمواجهة احزاب اليسارالتقليدي ذي النزعات الماركسية التقليدية وطروحاتها حول مفاهيم المركزية والاقتصاد الاشتراكي وديكتاتورية البروليتاريا وغيرها من توليدات الثقافات الشمولية..
ويعترف أصحاب النظرية الليبرالية الجديدة بالقول، إن هذه النتائج السلبية ستحصل فعلاً ولكنها ستحصل في الأجل القصير فقط، وان النتائج الإيجابية سوف يحصل عليها المجتمع في الأجل الطويل، إلا أن ذلك يظل في عالم الاحتمالات أما في الواقع، فإن النتائج السلبية م إفقار وبطالة سوف تتراكم على المدى الطويل، وسوف تحدث تشوهات تعرقل مسيرة التنمية، خاصة من خلال تراجع خدمات التعليم والصحة. كما أن هذه النتائج سيكون لها آثار اجتماعية ونفسية خطيرة سوف تؤثر على التمسك الاجتماعي والأسري من جراء تزايد التفاوتات في توزيع الدخل والثروة وانقسام المجتمع إلى أقلية غنية وأكثرية غنية مع انحسار محسوس للطبقة المتوسطة.‏
لكن الليبرالية الاقتصادية الجديدة قد فشلت في إزالة الاختلال الداخلي (عجز الموازنة العامة والتباين بين الادخار والاستثمار) وكذلك الاختلال الخارجي (عجز موازين المدفوعات) في أغلب الدول التي اضطرت إلى الأخذ بها. لا بل انخفضت معدلات النموالاقتصادي ومعدلات نمو الإنتاجية وزاد معدل إفلاس المؤسسات وارتفعت معدلات البطالة.‏
أما على الصعيد العالمي فقد أدت السياسات الليبرالية المتطرفة إلى استفحال أزمة الديون الخارجية، وفرض نظام أسعار الصرف واضطراب أسواق النقد الدولية، وبروز نزعة الحماية والكتل الاقتصادية الإقليمية شبه المنغلقة واندلاع (الحروب) النقدية والتجارية الضاربة.
وكانت بلدان العالم الثالث، كما هي دائماً، الضحية الأولى لسياسات الليبرالية الاقتصادية، فقد قادت هذه السياسات إلى تردي أوضاع هذه البلدان بعد وقوعها في فخ القروض الخارجية، وبعد أن حاصرها الدائنون وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليجبروها على التكيف مع الأوضاع المضطربة للاقتصاد العالمي. من أجل ضمان استرداد الديون، وإعادة تشكيل التوجهات الاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان على نحو يكفل للدول الصناعية المتقدمة الدائنة، إعادة أساليب السيطرة المباشرة على اقتصادات بلدان العالم الثالث، وهي الأساليب الاستعمارية القديمة.‏
وهي في سبيلها إلى ذلك، فإنها تعيد فشل التنمية وتراكم الديون على بلدان العالم الثالث الى أربعة أسباب:
1. الضعف المزمن في البنية الاقتصادية.
2. الفساد السياسي الذي تمارسه النخب الحاكمة.
3. هروب رأس المال المحلي إلى الخارج.
4. الإنفاق الباهض على مشتريات الأسلحة وتأسيس جيوش لا لزوم لها.
هذا بالاضافة الى ان الليبرالية تؤكد باستمرار على المبادئ الحضارية والقيم الإنسانية كتحقيق الحرية الفردية.. وإقامة العدالة الاجتماعية.. وتطبيق الديمقراطية السياسية.. وإشاعة المساواة البشرية .. وتقرير الحقوق الإنسانية.. إلى غير ذلك من المبادئ والمعايير والقيم ، التي تمهد للإصلاح الشامل، وتعزز مسيرة الأمة بوسائل الفكر والإبداع كي تلحق بركب الحضارة الإنسانية الذي تجاوزها منذ قرون، لذا هم يحاربون (الوصاية الفكرية) بكل أشكالها، ويدينون سياسة (تكميم الأفواه) التي تعارض الحق الإنساني في التعبير، أو جريرة (الإقصاء) بكل صوره، لأنه نقيض احترام الآخر، كما يرفضون التدخل في شؤون الناس، أو عقلية رفض المخالف والأخذ من ثقافته، أو التحجر عند الماضي وعدم التعاطي مع الحضارة المعاصرة..
وينادي بالمنطق العقلاني في تناول الأمور ويشدد على الواقعية في تصور الأشياء والحكم عليها ويتهم الاسلام بأنه متطرف ومشروع جاهزللإرهاب،دون تمييز بين الاسلام العقلاني المعتدل والاسلام المتطرف..
فالخطاب الليبرالي اليوم أثبت تطبيقياً أنه يعيش أزمة حقيقية، وهذا يحدو بالرأي الآخر الى أن يتساءل اشكاليا عن مدى جدوى التلاقي معه على أرضية مشتركة، خاصة وأن عدد المنصفين منهم يكاد لا يتعدى أصابع اليد ما لم تكن هناك مكاشفة فكرية حقيقية معهم، تدفعهم نحو تبني مواقف عقلانية وقراءة الأحداث قراءة واعية تسهم في تخفيف حدة الغلو في خطابهم على كل الصعد والمجالات الحياتية..
فالليبرالية، خاصة تجلياتها في مرحلة ما بعد الحداثة، تشدد على حرية الأفراد وعلى المساواة فيما بينهم، وهي تجتهد في إزاحة وتفكيك كافة القيود المجتمعية والقانونية والمؤسسية، التي تحد من حرية الأفراد وتقيّد إراداتهم وتعطّل قدراتهم. وإذ تلطّف الليبرالية من مفاعيل الفردية الجامحة، التي تنتزع الفرد من الجماعة وتبعده عن أهله وأصدقائه، فإنها تفعل ذلك عبر تكوين التجمعات الطوعية. فهل تكون مساندة الليبراليين لمثل هذه التجمعات وحرصهم على حريتها هي التعبير عن التزامهم بالتنوع الثقافي ؟
قد يكون الذين يرون أنّ الليبرالية هي النظام السياسي الأفضل لتطبيق التنوّع الثقافي على حق، ولكن ليس هناك من مسوّغ للاعتقاد بأنّ النظام الليبرالي وحده يوفر هذه الميزة. إنّ الليبرالية قد تأتي ولكن من دون أن يأتي معها التنوّع الثقافي، إنها عقيدة إنسانية كبرى، ولكنها لا تقدم حلا لكافة المشاكل التي تعاني منها المجتمعات.
من اللوازم التي باتت تشكل ملامح الخطاب الليبرالي في مشروع الإصلاح الاقتصادي هي أن الحرية الاقتصادية شرط لازم للديمقراطية السياسية..وقد يتفلسف البعض ويختلف حول مديات مفهوم الحرية، إلا أنها تفترض وتشترط قبل كل شيء ضمان الحقوق الطبيعية للإنسان، التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، مثل الحق في الغذاء الكافي والحق في الحصول على مأوى والتمتع بالخدمات الصحية والحق في الحصول على عمل، والحق في التعلم والمعرفة والحق في حماية البيئة الطبيعية، والحق في التخلص من الفقر والفاقة على اعتبار أن الفقر لا ينسجم مع حق الإنسان في الحصول على حياة كريمة..
ومن الواضح أن هذه الحقوق الطبيعية، تفرض أداءً ملزماً على الحكومات، حتى يتسنى لمواطنيها التمتع بتلك الحقوق، بمعنى أن الحكومة ستكون مسؤولة عن قطاعات اقتصادية وخدمية كثيرة، حتى تتمكن من تأمين الحقوق لمواطنيها، كمرحلة أساسية باتجاه نشر (الحرية).. فمن المستحيل أن تمنح الحرية لأي شعب جائع!..
بيد أن هذا الأمر لا ينسجم مع المشروع الاقتصادي الليبرالي، الذي يحمل مفهوم إقصاء الدولة عن الحقل الاقتصادي وتحرير الاقتصاد من الضوابط، مما يفتح الطريق أمام رؤوس الأموال سواء المحلية منها أو الخارجية لغرض فرض هيمنتها على النشاط الاقتصادي المحلي، فمن أين للحكومة – أية حكومة – وهي تتبنى المشروع الاقتصادي الليبرالي كل تلك المبالغ الهائلة التي تستطيع من خلالها الإيفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، إذا علمنا أن هذا المشروع الليبرالي المعولم، يسهم حتى في التوجه نحو تقليص إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم الكمركية.
إن الحرية الاقتصادية المفترضة لإقامة اقتصاد يحكمه سوق منفلتة لا تنسجم بالضرورة مع الحرية المتوخاة في الديمقراطية السياسية، لأنها ستحيلها إلى ديمقراطية يحركها راس المال، وما يقال عن أن الحرية الاقتصادية شرط لازم للديمقراطية السياسية، تدحضه الحقائق التاريخية، فالتطورالرأسمالي تسارع في بعض دول الغرب في ظل أنظمة معينة، كما إن النمو الاقتصادي السريع في إطار الرأسمالية اقترن بتدخل فعال للدولة..
نعم فالبديل لرفض الليبرالية ونكوصاتها التطبيقية هو ايجاد آليات سياسية عربية واسلامية من أجل ضمان الحقوق الطبيعية للإنسان التي تنصب في مجملها باتجاه توفير حياة كريمة له، فهل ممارسة الإنسان حقه الطبيعي في الانتخابات تعني حصوله على كامل حريته؟.. وأين ستكون حرية الرأي والتعبير حيث يعيش عدد كبير من السكان في فقر مدقع حيال ديمقراطية للرساميل تتحكم في خيارات الناخبين...
إن ابتلاء معظم الشعوب التي كانت تصنف كشعوب للعالم الثالث بأنظمة شمولية هيمنت على القطاعات الاقتصادية بإدارات بيروقراطية طفيلية لسنوات طوال، التي أضرت كثيراً بالتنمية الاقتصادية، ربما كانت وستكون مدعاة لتمرير الخطاب الليبرالي الداعي إلى رفض اقتصاد الدولة القائم على التخطيط المركزي وإبداله باقتصاد السوق القائم على قناعات مسبقة ذات طابع آيديولوجي في اعتماد السوق محوراً للنشاط الاقتصادي وآلية لتوجيه الموارد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق